أنت ومزارع الشرائح الهاتفية
لو قال أحدهم لك بأنّ هناك مضاربة وهمية على أسعار الذهب الحالية، فهل تصدقه؟
ولو قال لك أحدهم إن هناك شيطنة وتشويه سمعة في العالم الرقمي لأبناء وطنك أو قوميتك أو دينك في بلاد الغرب، فهل تصدقه؟
ولو قال لك أحدهم بأنّ هناك تضليلًا متعمدًا في رسم خريطة العالم، وطريقة عرض حجم القارات مغايرة للواقع، فهل تصدقه؟
ولو قال لك أحدهم إنه يمكنك شراء بيت في مدينة ليماسول بقبرص بدولار واحد فقط، فهل تصدقه؟
ولو قال لك أحدهم إنه يمكنك الزواج بامرأة فاتنة الجمال في قرية بأحد دول الاتحاد السوفيتي السابقة «شرق آسيا» دون أي تكاليف، فهل تصدقه؟
أساليب الاستدراج في العالم الرقمي آخذة في الانتشار عبر أمور عدة، وفي مجملها تلامس المال والجنس والطمع وتستفز القناعات والعقائد.
حجم الجرائم الأخلاقية بكل أصنافها في العالم الرقمي وصل إلى مستوى خارج نطاق العقل. حتى قال أحد مراسلي BBC في سلسلة بودكاست الجملة التالية:
No one is off limits - not even a group of nuns in Chicago.
وترجمتها: ”ليس هناك أحد خارج النطاق، حتى لو كانت مجموعة صغيرة من راهبات في مدينة شيكاغو.“
حاليًا، من يملك الإعلام الرقمي وأدواته الفاعلة يسيطر على أكبر قدر من عقول الناس حول العالم. من اعتمد العالم الرقمي مصدره الوحيد في التفاعل وفهم الحقائق وصنع القرارات، فلا يلوم إلا نفسه. جملة قد يتفق البعض عليها وقد يختلف فيها، إلا أن الحقيقة أن الأغلب تعرض أو يتعرض لما يسمى بعملية غسيل الدماغ بأدوات إعلامية عالمية مختلفة، عبر قنوات رقمية وتطبيقات تواصل اجتماعي وإذاعات وقنوات فضائية ومسلسلات وأفلام سينمائية.
حديثًا برز مصطلح ”مزرعة شرائح SIM“، وهو سلاح ناعم ورخيص في تسويق القناعات والأفكار الجديدة. مصطلح «مزرعة شرائح SIM» يرمز إلى مكان يحوي عددًا كبيرًا من الجوالات المبرمجة والعاملة بنشاط في حقول التفاعل بمواقع التواصل الاجتماعي المختلفة. في كل جوال أكثر من شريحة، وفي كل شريحة مئات الحسابات، يتابع كل حساب ويتواصل مع الناس في عدة منصات بأسماء وهمية مختلفة.
تلك الحسابات تسجل في مختلف وسائل التواصل الاجتماعي وتدخل مع عدد كبير من الناس في حوارات وإثارات واستفزازات ونقاشات وخلافات وإغواءات وخداع وابتزاز وتحريض وعمليات نصب وشتم وحروب كلامية مفتوحة زمنيا. بعد فيروس ”تشرنوبل“ وفيروس ”I love you“ الرقميين، يبدو أن مصطلح SIMCARTEL آخذ أيضًا بالانتشار. العالم الرقمي، كما سهل أمور الناس في مجالات عدة كالسفر وحجز الفنادق والدفع الإلكتروني وإجراء العقود، إلا أنه عقد مشاهد الثقة والاطمئنان وزاد من نسبة الضحايا الأبرياء.
إلى الآن لا توجد إحصائيات أو أرقام عن عدد مزارع الشرائح الرقمية حول العالم، ولا نعلم مدى الأضرار التي أحدثتها أو الاختراقات الاجتماعية التي زرعتها تلك المزارع الهاتفية الوهمية.
حديثًا تمكنت الشرطة الأوروبية «Europol» في يوم 10 أكتوبر 2025 من رصد واحدة من هذه المزارع في دولة تُسمى لاتفيا. وتدير تلك المزرعة ما يقارب 49 مليون حساب مزيّف، ويعمل على تشغيلها سبعة أشخاص فقط، وقد تم القبض عليهم جميعًا حتى وقت نشر الخبر بموقع يوروبول الرسمي.
هكذا رقم فلكي ساهم ويساهم في تزوير الواقع، وتمرير أجندات معينة، والتحريض ضد أقليات، والتلاعب في الرأي العام، والنصب والاحتيال الإلكتروني، وسرقة الأموال، وزيادة التفاعل على المنصات، وإثارة البلبلة في بقع جغرافية، وترويج صور إباحية، وفتن ونعرات وغيرها.
لك أن تتخيل وجود خمسين مزرعة رقمية من ذات الحجم وعدد الحسابات الوهمية، أي ما يعادل «49 مليون حساب × 50 مزرعة SIM = 2,450,000,000 حساب وهمي»، أي ما يعادل ملياري ونصف حساب وهمي، وهو رقم يفوق عدد حاملي الجوالات الذكية في العالم! فما حجم تأثيرها في صياغة أو تغييب وعي الناس في قضايا معينة؟
صاحب هذا العدد من المزارع يمكنه أن يروّج كذبته عبر ملياري ونصف حساب وهمي. وحينذاك لا عزاء لمن غيّب قيمه ودينه وخالف نصيحة الله تعالى:
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ﴾ [الحجرات: الآية 6]
مع وجود ما يسمى بـ ”deep fake“، وجب وجوبًا شرعيًا وأخلاقيًا واجتماعيًا تمحيص أي نبأ قبل إعادة نشره أو تبنيه كحقيقة أو إقرار قرار مصيري يتعلق به.
لك أن تتخيل 49 مليون حساب من موقع واحد في دولة صغيرة ذات إمكانيات محدودة جدًا. هكذا حقائق وأرقام جديرة بأن نتأمل في أهمية صيانة العقل والقيم والسلوك من الانجراف وراء ما يُروّج في الفضاء الرقمي والسيبراني.
شخصيًا أرى أنه يجب اعتماد آلية للتحقق من صحة المصادر لما يتم تناقله، وعلى كل منا التأكد مما يريد أن يعيد إرساله قبل النشر، إلى جانب فلترة ما يُعرض علينا عبر شاشات الإنترنت والتلفاز ومواقع التواصل والقنوات الفضائية. كما يجب تفادي الانزلاق في الجدال الوهمي والحروب الكلامية العقيمة في عالم التواصل الاجتماعي.
عزيزي القارئ، تذكر أن الشخص الذي أنت على وشك الدخول معه في علاقة صداقة، حب، حوار، صفقة تجارية، استثمار، حجز سياحي، بوح، مشاركة معلومات خاصة، أو جدال؛ قد يكون مجرد شريحة في مزرعة شرائح إلكترونية، هدفها سلب وقتك ومالك وجهدك ومعلوماتك ودينك وابتزازك، وجذبك إلى قناعات تخدم أجندة صاحب المزرعة أو توريطك في مشكلة أو تجنيدك ضد أبناء جلدتك ودينك.
النضج والوعي وفهم الواقع مسؤولية كل فرد نحو نفسه وأسرته ومجتمعه. قريبًا سيكون هناك تحدٍ جديد في العالم الرقمي، وحاليًا تُناقش في مجالس الدول الصناعية المتقدمة عدة ملفات تتعلق بالجرائم الرقمية.
وشخصيًا أدعو الجميع إلى محاربة الأمية الرقمية وزيادة الوعي بين مستخدمي الإنترنت، لاسيما الشباب، لتجنب الابتزاز والتضليل والسرقة وهدم المبادئ والكفر بالله - والعياذ بالله - وإثارة الغرائز وإهدار الوقت والتورط في أي مشكلة مالية أو أخلاقية أو أمنية أو دينية.














