آخر تحديث: 5 / 12 / 2025م - 11:57 ص

المركزية وخطرها على المؤسسات

الدكتور جعفر أحمد قيصوم

ليس كلُّ من يحمل لقب المدير يُصبح مديرًا، ولا كلُّ من يتصدر موقعًا قياديًا يمارس القيادة، فالإدارةُ ليست سلطةً تُمارس، ولا منصةً لاستعراض القوة، ولا ساحةً لبطولات فردية يصنعها مديرٌ يرى نفسه محور الكون، بل هي عملٌ جماعي يقوم على توزيع المسؤوليات، وتبادل الآراء، وتفعيل الطاقات… ولا يمكن لعقلٍ واحدٍ مهما بلغت خبرته أو قوته أو قدرته أو ذكاؤه أن يُدير مؤسسةً كاملةً، ولو كانت فردية، بمفرده، أو يحتكر التفكير نيابةً عن غيره.

ورغم أن الفكر الإداري الحديث قد حسم هذا المبدأ بوضوح حين أكّد أن العقل الجماعي هو أساس البناء المؤسسي، إلا أن كثيرًا من المؤسسات - وللأسف - ما زالت أسيرةً لعقلية «المدير الواحد»، تلك العقلية التي تقوم على شعار غير معلن يقول: «أنا أفكر… وأنتم تنفذون». وهي عقلية لا تُعلن عن نفسها بصراحة، ولكنها تمارس نفوذها الخفي بشكل يومي عبر مظاهرها الواضحة: احتكار القرار، إجهاض المبادرات، غياب الحوار، تهميش العقول…

ويُعرف هذا النمط في الفكر الإداري الحديث باسم «الإدارة الوصائية» أو «الإدارة بالنيابة»، وهو شكل متقدم من المركزية الفكرية واحتكار القرار، حيث يتحول المدير من قائدٍ للفريق إلى وصيٍّ على العقول.

ما هي المركزية إذن؟ ولماذا تُعتبر مرضًا تنظيميًا؟

المركزيةُ ليست عيبًا مطلقًا ولا ميزةً ثابتة، بل هي أسلوبٌ إداري مشروع عندما تُستخدم في نطاقٍ ضيق مثل «القرارات السيادية الحساسة، أو الأزمات الطارئة التي تحتاج إلى حسم سريع…» لكنها قد تنقلب إلى مرضٍ تنظيمي خطير إذا تجاوزت حدودها كأداةٍ تنظيميةٍ مؤقتةٍ لتتحول إلى نهجٍ دائم داخل المؤسسة، فتُستخدم لإقصاء العقول، وخنق المبادرات، وإلغاء الشراكة الفكرية.

وقد عرّف الدكتور هنري فايول، أحد رواد علم الإدارة، المركزية بأنها «تقليل دور المرؤوسين في التفكير واتخاذ القرار»، وهو تعريف يكشف عن خطورة المركزية لأنها تشل طاقة المؤسسة العقلية وتحول المدير إلى مصدرٍ وحيدٍ للرأي، والفريق إلى منفذين بلا رؤية.

لماذا يتشبث بعض المديرين بالمركزية؟

قد يبدو من الطبيعي أن يرفض بعض المديرين العمل بأسلوبٍ تشاركي، وأن يميلوا إلى المركزية في التفكير واتخاذ القرار، ولكن السؤال الأهم هو: ما الذي يدفعهم إلى ذلك؟ هل هو ضعف الثقة بالآخرين؟ أم الخوف على السلطة؟ أم الخلل في الفهم الإداري؟ أم أن المركزية تصبح أحيانًا ملاذًا نفسيًا يختبئ خلفه القائد حين يعجز عن بناء الفريق الذي يفكر معه؟

لقد أثبتت التجارب الإدارية أن المركزية ليست قرارًا إداريًا عابرًا، بل هي عقليةٌ ونمطُ تفكيرٍ وسلوكٌ يتشكل نتيجة مجموعةٍ من العوامل التي تصنع ما يمكن أن نسميه «العقلية الفردية في الإدارة»، ولعل من أبرز هذه العوامل:

1. الخوف من فقدان السيطرة

يرتبط هذا العامل بعقدةٍ تنظيميةٍ شائعة لدى بعض المديرين الذين يظنون أن التفويض يُضعف هيبتهم أو يُقلل من حضورهم الإداري، فيميلون بدافع الخوف إلى الإمساك بكل الخيوط بأيديهم، ومتابعة أدق التفاصيل بأنفسهم، وكأن المؤسسة لن تعمل إلا إذا أشرفوا على كل صغيرةٍ وكبيرةٍ فيها.

ومع مرور الوقت يتحول المدير إلى عنق الزجاجة الذي تتجمع عنده الأعمال، وتتوقف عنده القرارات، لأن كل شيء ينتظر توقيعه أو موافقته أو رأيه.

2. تضخم الأنا القيادية

حين يعتقد المدير أنه الأذكى والأقدر والأجدر والأعلم بالقرار لمجرد أنه يجلس على قمة الهيكل التنظيمي، فإنه يسقط في فخ خطير يُسمى في علم الإدارة «غرفة الصدى»، حيث لا يسمع سوى صوته، ولا يرى سوى رأيه، ولا يعترف إلا بما ينتجه عقله، ومع مرور الوقت يتعامل مع المؤسسة وكأنها امتدادٌ لذاته، ومع فريقه كأنهم تابعون لا شركاء.

وتبدأ الكارثة الحقيقية عندما يتوقف عن طلب المشورة، ويستهين بعقول الآخرين، ويظن أنه يحتكر الحقيقة والخبرة والرؤية، وعند أول إخفاقٍ يقع فيه يُسقط الفشل على الفريق، بينما ينسب لنفسه كل نجاحٍ يتحقق، وهكذا تتحول القيادة من رسالة تأثير إلى نزعة تمركز حول الذات، ويتحول الفريق تدريجيًا إلى مجموعة منفذين بلا رأي، وإلى أدواتٍ تنتظر التعليمات بعدما اغتيلت روح المبادرة في داخلهم.

3. غياب ثقافة العمل الجماعي

حين تُبنى المؤسسة على هياكل شكلية لا تؤمن بروح الفريق، وتُدار بإجراءاتٍ وظيفيةٍ جامدةٍ لا تسمح بالشراكة الفكرية، فإنها تنتج بشكلٍ تلقائي مدراء يمارسون المركزية دون وعيٍ منهم، فالثقافة المؤسسية - كما يؤكد علماء الإدارة - إما أن تكون مولدًا للأفكار أو مقبرةً لها.

وقد كشفت دراسة صادرة عن معهد ماساتشوستس للتقنية «MIT» أن 68% من القادة ذوي الأسلوب المركزي في الإدارة يُعانون من ضعفٍ في مهارات بناء الفريق، وأن مؤسساتهم أقل قدرةً على الابتكار بنسبة 45% مقارنةً بالمؤسسات التي تتبنى الثقافة التشاركية. ولذلك فإن غياب ثقافة العمل الجماعي لا يؤدي فقط إلى مركزية القرار، بل يخلق بيئةً طاردةً للعقول والكفاءات.

أما عن الخسائر التي تصيب المؤسسات عندما يحتكر المدير التفكير فهي ليست عابرةً ولا شكلية، بل عميقةٌ وخطيرة، وتمتد إلى جوهر الأداء المؤسسي، ومن أبرز هذه الخسائر: انخفاض الإنتاجية، وضعف الأداء التنظيمي، وارتفاع معدل دوران الموظفين، وبطء اتخاذ القرار وغيرها. ولذلك يقول بيتر دراكر: «أخطرُ مؤسسةٍ هي تلك التي يسيطر عليها العقل الواحد».

العقل الواحد… الطريق السريع إلى الفشل

لقد حذّر الفيلسوف الإداري المعروف بيتر دراكر من هذا النمط بقوله: «أسوأُ أنواعِ الإدارة هي التي تحاول أن تفكر نيابةً عن الآخرين».

ولعل أبرز مثالٍ تاريخي على خطورة هذه العقلية ما حدث في شركة فورد موتورز مع مؤسسها الشهير هنري فورد، فرغم عبقريته الصناعية وريادته في تطوير صناعة السيارات، إلا أنه وقع في فخ «التفكير بالنيابة عن الجميع»، حيث رفض أفكار المهندسين وأغلق باب الحوار، وتعامل مع المؤسسة وكأنها امتدادٌ لعقله وحده، عندما أصر على إنتاج موديله الشهير «فورد T» ورفض تطويره رغم تغيرات السوق. وقد تراجعت الشركة بشكلٍ خطير وخسرت حصتها أمام المنافسين، ولم تستعد قوتها إلا بعد أن تخلّى عن فرديّته وسمح بقيادةٍ جماعيةٍ حقيقيةٍ، واحترام عقول الآخرين داخل المؤسسة.

وتشير هذه القصة بوضوح إلى حقيقةٍ مهمة، وهي أن احتكار التفكير أخطر من احتكار السلطة، لأنه يجعل المؤسسة تعيش بعقلٍ واحد، ورأيٍ واحد، وفهمٍ واحد، فإذا تعثر صاحب القرار أو الرأي تعثرت المؤسسة بأكملها، وإذا نجح استأثر بالمجد ونسب الإنجاز إلى ذاته.

ظاهرة العقل الواحد

وهذا النمط - للأسف - لا يقتصر على المؤسسات الاقتصادية أو الشركات التجارية فحسب، بل يمتد كظاهرةٍ اجتماعية نلاحظها في بعض مؤسسات المجتمع المدني، والأخطر من ذلك أن هذا الفكر تسلل إلى عقول بعض من يُطلقون على أنفسهم لقب «النخب الثقافية والاجتماعية»، رغم أن دورهم الطبيعي يُفترض أن يكون تعزيز سعة الأفق، وترسيخ ثقافة الحوار، واحترام الرأي والرأي المختلف.

غير أن هذه السلوكيات لا تُمارس دائمًا بشكلٍ مباشر أو صريح، بل تظهر أحيانًا في صورٍ ناعمة مثل: تهميش العقول الأخرى بحجة أنها «غير مؤهلة للفهم»، أو إقصاء الأصوات الجديدة بحجة «قلة الخبرة»، أو السخرية من الآراء المختلفة بدلًا من مناقشتها، أو احتكار منابر التعبير وحرمان أصحاب الرأي الآخر من الفرصة… وهكذا تتكرر قصة «العقل الواحد» في كثيرٍ من مؤسساتنا ومجتمعاتنا، حتى باتت لدى البعض واقعًا مألوفًا وكأنها قدرٌ إداريٌّ لا يمكن تجاوزه.

ولا تقتصر نتائج هذا النمط المؤسف على البطء الإداري أو تعطّل القرار فحسب، بل تمتد إلى ما هو أعمق مثل: التراجع المعرفي والتنظيمي، وهجرة العقول والكفاءات، وتآكل الثقة بين النخب والجمهور أو بين المدير وفريق العمل. ولكن معالجة هذه المشكلة - في رأيي المتواضع - لا تكون بإسقاط المدير أو باستبدال شخصٍ بآخر كما تفعل بعض المؤسسات، بل بتحرير الإدارة من الشخصنة الإدارية، وتحويلها إلى نظامٍ عبر بناء فرق تفكيرٍ لا فرق تنفيذ، وتبني هياكل تشاركية لصناعة القرار، وتطبيق التفويض الذكي بأسلوبٍ مهني، وترسيخ ثقافة الحوار المؤسسي، وحماية الرأي المختلف.

الخاتمة

وفي الختام، يمكن التأكيد على أن خطورة المركزية لا تكمن في احتكار السلطة أو الهيمنة على القرار فحسب، بل في احتكار العقول وتعطيل التفكير الجماعي، لأن المؤسسات أو المنظمات أو الهيئات التي تُدار بعقلٍ واحد قد تفقد قدرتها على التعلم والنمو، وتصبح أكثر عرضةً للأخطاء الاستراتيجية والانهيار الإداري.

وقد أثبتت التجارب أن العقل الجماعي هو الأقدر على حماية المؤسسات من التراجع وتعزيز قدرتها على التكيف والابتكار.

فأعظم القادة في التاريخ الإداري الحديث مثل جاك ويلش في جنرال إلكتريك، وساتيا ناديلا في مايكروسوفت، لم يصنعوا نجاحاتهم بالقيادة الفردية، بل ببناء ثقافة عملٍ جماعيٍّ تقوم على التمكين، والتفويض، واحترام العقل البشري.

ولذلك تقول القاعدة الإدارية الذهبية: «إذا كان المدير هو أذكى شخصٍ في القاعة، فالمشكلة ليست في القاعة، بل المشكلة أنه لم يبنِ فريقًا بعد.»