آخر تحديث: 5 / 12 / 2025م - 2:41 م

الطمأنينة

ياسين آل خليل

في خضم ما نعيشه من سرعة في الإيقاع، ومع كل ما يحيط بنا من ضجيج المنصات وإغراءات الاستهلاك، يزداد الاعتقاد أن السعادة مرهونة بما نملك، وأن المال أو المنصب أو تراكم الإنجازات هي مفاتيح الراحة. كثيرون يظنون أن بلوغ تلك الأهداف سيمنحهم مفاتيح الطمأنينة، لكن التجربة تكشف أن الأمر ليس بهذه البساطة. فما نحصل عليه قد يبهجنا لحظة، لكنه لا يلبث أن يتبخر ويترك وراءه فراغًا أكبر مما كان.

رأيت في حياتي أناسًا بنوا حياتهم مهووسين بخطط دقيقة، يحسبون خطواتهم بالمكاسب، ويطاردون هدفًا بعد آخر وكأنهم على موعد مع تلك اللحظة المثالية التي ستنهي قلقهم. لكن ما عاينته أن تلك اللحظة لم تأتي أبدًا بعد طول انتظار. فالريح لا تسكن، والعمر لا يتوقف جريانه احترامًا لإنجاز. بل كلما وصلوا إلى محطة وظنوا أنها نهاية القلق، ظهر أمامهم قلق جديد متنكرًا في صورة أخرى.

وفي الطرف الآخر، هناك من استسلم لملذات الحاضر. يلهث من متعة عابرة إلى أخرى، ظانًا أن الطريق إلى السكينة يمر عبر الاستهلاك المستمر للحواس. لكن ما إن تنطفئ لحظة النشوة، حتى يعود العطش مضاعفًا، وكأن المتعة لا تزيده إلا فراغًا.

من خلال ما عايشته ورأيته، أدركت أن الطريق الحقيقي لا يمر عبر مراكمة المال، ولا عبر الأبراج التي نشيدها من المناصب والإنجازات، ولا عبر اللحاق بكل ذلك الضجيج الخارجي من توقعات وأحكام وآراء تلهينا عن فهم ذواتنا والعيش بوعي. بل يكمن في أن نتعلم الاعتدال، أن نمارس الرضا عن اللحظة الآنية ونستمتع بها كما هي، أن نرى في بساطة العيش غنىً، وفي القليل الذي نملكه فرصة لنكون أكثر عمقا وأكثر صفاء.

الحكمة ليست في أن يعيش الإنسان بلا نقص، ولا في أن يملك من الوفرة ما يجعله يظن أنه يغنيه عن تقلبات الأيام. الحكمة الحقيقية هي أن يبقى ثابتًا حين تتغير الأحوال، متوازنًا حتى لو اهتزّت من حوله الدعائم التي عادة ما يتكئ عليها الناس. قيمة المرء لا يصنعها مال ولا منصب، بل يقينه الداخلي بأنه ليس رهينة لما يُعطى أو يُسلب. ومن أدرك هذا المعنى عاش في غنى، حتى وإن خلت يداه.

وأجمل ما يمكن أن يبلغه الإنسان هو أن ينسجم مع نفسه. أن يتعامل مع إمكاناته كما هي، دون أن يرهقه سباق أو تقوده مقارنات تسرق منه عمره. فالحياة، في جوهرها، ليست بعدد السنين ولا بما نكدّسه من أملاك ومقتنيات، بل بصفاء اللحظة التي نعيشها، والطمأنينة التي نجدها في طريقنا الذي نخطوه بخطى ثابتة، دون النظر إلى ما يُعرض في الشاشات من مغريات الحياة اليومية.

السعادة ليست وعدًا ينتظرنا في قادم الأيام، ولا شيئًا نحمله من ذكريات الماضي. السعادة، بكل بساطة، هي أن نعيش اللحظة الحالية بوعي ورضا، وأن ندرك أن الرحلة نفسها بكل ما فيها هي أجمل من أي هدف أو محطة ننتظرها.