آخر تحديث: 5 / 12 / 2025م - 2:41 م

الذكاء الاصطناعي في السعودية: فرصة وطنية بين الإنجاز المحلي والدروس العالمية

عاطف بن علي الأسود *

من واقع متابعتي للتطورات المتسارعة في مشهد الذكاء الاصطناعي داخل المملكة، أجد نفسي متفائلًا بما يجري على مستوى الدولة، وعلى مستوى القطاع الخاص أيضًا. نحن اليوم أمام تحوّل جذري تقوده رؤية السعودية 2030، تُعامل الذكاء الاصطناعي كأداة محورية لإعادة تشكيل الاقتصاد الوطني، وتهيئة المجتمع لمستقبل مختلف تمامًا عمّا اعتدناه في العقود الماضية.

الدولة — عبر الهيئة السعودية للبيانات والذكاء الاصطناعي «سدايا» ومبادرات وطنية أخرى — لا تكتفي بالتنظير، بل تنفّذ على أرض الواقع. استثمارات تجاوزت 75 مليار ريال، وبنية رقمية متطورة، وأنظمة حكومية ذكية بدأت تعمل في قطاعات الصحة، والطاقة، والمالية، إضافة إلى مبادرات تعليمية وتدريبية واسعة. هذه المؤشرات تضع المملكة في مقدمة الدول التي تسير بخطى ثابتة نحو تبني الذكاء الاصطناعي كأداة للتنمية، لا كترف تقني أو موجة عابرة.

وفي الوقت نفسه، تسير قطاعات القطاع الخاص جنبًا إلى جنب مع جهود الدولة في هذا المجال، مدفوعةً برؤية قيادية فاعلة واستشرافية. فقد بدأت العديد من الشركات الوطنية في تبنّي حلول الذكاء الاصطناعي لتحسين كفاءتها التشغيلية، وتطوير منتجات وخدمات مبتكرة، وتعزيز قدرتها التنافسية محليًا وإقليميًا. هذا التوجه المتوازي بين الدولة والقطاع الخاص يعكس نضجًا ووعيًا متناميًا بأهمية الذكاء الاصطناعي كركيزة للتنمية المستدامة، وكتقنية قادرة على إعادة تعريف طرق العمل والإنتاج في مختلف القطاعات.

المشهد العالمي يقدّم دروسًا مهمة، حيث لم تصل الدول المتقدمة إلى ما حققته في الذكاء الاصطناعي عبر جهود الدولة وحدها، بل من خلال شراكة متكاملة بين الحكومة «القطاع العام» والقطاع الخاص، إلى جانب المجتمع الأكاديمي. الصين، على سبيل المثال، خلقت بيئة تشريعية ومالية جذبت شركات التكنولوجيا لتطوير حلول الذكاء الاصطناعي على نطاق واسع، مما جعلها اليوم من أبرز اللاعبين عالميًا. أما الولايات المتحدة، فاعتمدت على قوة الشركات الناشئة والتكامل بين الجامعات والمختبرات البحثية وشركات التكنولوجيا العملاقة. أما الاتحاد الأوروبي، فيعمل على وضع أطر تنظيمية تُوازن بين الابتكار وحماية الخصوصية والأخلاقيات.

الأثر الاقتصادي للذكاء الاصطناعي لا يُستهان به. فالدول التي تبنّت التقنية مبكرًا تشهد اليوم زيادة في الإنتاجية، وتقدمًا في مؤشرات التنافسية العالمية، وقدرة أكبر على الابتكار وتصدير المعرفة. والمملكة أمام فرصة نادرة لتقفز اقتصاديًا لا من خلال مضاعفة الموارد، بل من خلال مضاعفة القيمة المنتجة من نفس الموارد — وهنا يكمن جوهر التحول الذكي الذي تقوده الدولة.

أما على المستوى الاجتماعي، فإن الذكاء الاصطناعي ليس حكرًا على القطاعات الحكومية أو الصناعية، بل يمتد أثره إلى حياة الإنسان اليومية. فمن خلاله يمكن تحسين الخدمات العامة، ودعم اتخاذ القرار في السياسات الاجتماعية، وتقديم تعليم مخصص يلائم احتياجات كل طالب، وتحسين الرعاية الصحية عبر تشخيص أسرع وأدق. ولنا في تجارب مثل إستونيا وكندا نماذج ملهمة في دمج التقنية بالحوكمة والتعليم والرعاية.

لكن الأهم من كل ما سبق هو بناء الإنسان. فبدون كوادر وطنية مؤهلة ومبدعة، لن نستفيد من كل هذه التقنيات. الدول التي سبقتنا وضعت التعليم والبحث العلمي في قلب استراتيجياتها، وهذا ما ينبغي أن نواصل التركيز عليه بقوة، ليس فقط عبر الابتعاث أو التدريب، بل من خلال منظومة تعليمية حديثة تُنمّي التفكير النقدي، والتحليل، والبرمجة، والابتكار من المراحل المبكرة.

في النهاية، الذكاء الاصطناعي ليس مشروعًا تقنيًا فحسب، بل مشروع وطني متكامل يشمل الاقتصاد والمجتمع والتعليم والثقافة. والمملكة — بقيادةٍ واعيةٍ ورؤيةٍ ملهمة — بدأت هذا السباق بثقة ووضوح، ويمضي معها القطاع الخاص والمؤسسات التعليمية بخطى متوازنة نحو المستقبل. فالمستقبل لمن يبتكر ويواكب، والمملكة اليوم تؤكد للعالم أنها ليست فقط مستهلكة للتقنية، بل صانعة لمستقبلها الذكي بثقة واقتدار.

دراسات عليا اقتصاد صحي