آخر تحديث: 5 / 12 / 2025م - 2:41 م

خلف الأناقة وجع لا يُقال

عماد آل عبيدان

إنّ حجم الإرهاق الذي نحمله في أعماقنا، لأننا نتقن فنّ التماسك: مظهر أنيق ”كاشخ“، مرتب الهندام، وابتسامة معلقة على الوجوه بطمأنينتها. لا يعرف الناس أن وراء هذا التماسك وتلك الابتسامة والهدوء جراحًا مكتومة، وأثقالًا لا تُرى. ومن ثَمَّ، تتسرب النظرات إلينا كأننا في قمة الاكتفاء، لا حاجة لنا بأحد، كوننا نحن الملاذ عند الحاجة بنظرتهم وتفكيرهم طبعًا. وكم يكون هذا الحكم قاسيًا حين يخفي في داخله غبطة مشوبة بظلّ حسد أو نظرة عين.

يقول صديق: أتذكر صاحبي الذي يقارن نفسه بي دائمًا، رغم أننا متقاربان في الراتب والحال وكوني أكثر منه أولادًا. غير أن الديون أنهكت كاهله لأنه لم يحسن التدبير. ينظر إليّ وكأنني أعيش في رخاء، فقط لأني لا أُفصح عن تعبي واحتياجي، ولا أمد يدي مستجديًا العون. يجهل أن المقارنة ليست ميزانًا عادلًا، وأن البذخ قد يكون في سوء إدارة لا في قلة المال. ومع ذلك، لا ضير فأنا ولله الحمد متوكل على الله ومعتمد عليه، وماضٍ في طريقي بخير ورحمة من الله. ولكن ماذا أقول؟ وهل القول يُغير شيئًا؟

في الحقيقة، لا تحسب المعضلة في المال وحده فقط، حقيقةً أشعر بها في النظرة التي تحاصرنا حين نُظهر جانبنا المتماسك. الناس لا يرون الجهد والعرق الذي نذرفه، ولا السهر الذي يثقل جفوننا بهمه ومعاناته، ولا قلق المشتريات وفواتيرها وحسابها آخر كل شهر، ناهيك عن احتياجات الطوارىء وخلافها وواقع الحال. إنهم يرون فقط الصورة النهائية: ثياب مكوية ولبس مرتب، خطوات ثابتة، وعبارات مقتضبة ما بها شكوى. ولأننا لا نُفشي ضعفنا وحاجتنا، يُظن أننا نعيش على رصيف اليسر والرفاهية وأنهم على رصيف العوزة والحاجة، بينما نحن نسير على حبال دقيقة مشدودة فوق حال من الهموم والتماسك لتمش الأمور ما استطعنا.

أحيانًا، يتحول حسن التدبير إلى تهمة مبطنة بالأنانية. فمجرّد أن تُدير أمورك بلا ديون ولا فضائح مالية ولا مد يد لقرض أو خلافه، يراك البعض كأنك أنت مَن اخترت لهم أن يتعثروا ويقعوا في حالهم هذا. يتناسى هؤلاء أن للهدوء كلفة، وأن للاكتفاء ثمنًا من صبر طويل، وتنازلات لا تُحصى، وموازنة بين الرغبة والحاجة. وكأن العيون تبحث عن مأزق في حياتك لتتنفس ارتياحًا، فإذا لم تجده اخترعتْه وهمًا.

بيوت انهارت لأنها غفلت عن هذا الدرس البسيط على مر الأيام: لا تُقارن حياتك بما ترى من ظاهر غيرك. المقارنات كالملح الزائد، تُفسد الطبخة مهما كانت مكوناتها وربما تجعلها "صبَخًا. والإنسان الذي يُرهق نفسه بمراقبة الآخرين والمقارنات، لن يجد وقتًا ليُرمم نفسه.

أما الذين يحملون همّ العطاء في قلوبهم، فيأرجحون بين الفرح والحزن، بين الصبر والمضي بتسيير حياتهم رغم قسوتها. نفرح لأننا قادرون على أن نكون سندًا حين يحتاجنا أحد، ونحزن لأننا، في المقابل، لا نجد من يفهم وجعنا المستور وتعثرنا في المسير، ولا من يدرك أن ابتسامتنا التي يرونها كلما التقيناهم قد تكون جدارًا أخيرًا يمنع انهيارنا.

نعم، في أعماق كل واحد منّا قصة لا تُروى إلا بالعيون. وربما خلف الوجوه المشرقة جراح أشد ألمًا من تلك التي نشتكيها صراحة. ولكننا نُفضّل أن نُكمل المسرح دون شكوى فترى الابتسامة على وجوهنا، لأن الحياة لا تمنحنا كل ما فيها أو ما نتمناه، ولا تُمهلنا فرصة التوقف عند كل عثرة لنقوم منها.

ويبقى الدرس كما اراه من وجهة نظري القاصرة والشخصية، أن الاكتفاء الحقيقي ليس في المال فهو وسيلة لا غاية رغم كونه قوة لتسيير الأمور، ولا في كثرة الممتلكات، فكل ذاك تجده في أن تُحسن وزن خطواتك على طريق الحياة بحكمة ودراية. وأن تعرف أين تُنفق جهدك ووقتك وعاطفتك وكيف تعي مصروفاتك على قدر ما لديك، وأن تدرك أنّ وراء كل وجه متماسك برحمة من الله، معركة خفية لا يعلمها سواه.

ما قرأته هنا هو حكاية المجتمع كلّه: مَن يظهر قويًا ينتظر منه أن يُعين، ومَن يظهر مرتبًا وأنيقًا يُظن أنه غني، ومَن يبتسم كثيرًا يُحسب أنه سعيد. وهكذا نمضي جميعًا في مسرح كبير، نوزّع فيه الأدوار بسطحية، متناسين أنّ لكل إنسان كواليسه المثقلة وهمومه الموجعة.

وفي النهاية، نحن لسنا أبطالًا خارقين بأفواهنا ملاعق من ذهب، ولا جبالًا لا تهتز. نحن بشر، نكتم أوجاعنا بقدر ما نقدر ونتحمل، ونضحك أحيانًا كي نُخفي ارتجاف وأوجاع قلوبنا. وربما يكمن سرّ الحياة في أن نتعلم كيف نرى ما وراء المظاهر وتلك الكواليس، وكيف نُحسن الظن بدل أن نُطلق سهام المقارنات والحسد.

فالإرهاق لا يراه أحد، لكن أثره في الأرواح يترك بصمةً لا تُمحى…