آخر تحديث: 5 / 12 / 2025م - 1:30 م

سباق المظاهر

هاشم الصاخن *

كان يعيش حياةً بسيطة، يرضى بما تيسّر، ولا يطارد المظاهر.

لكن ما إن انتقل إلى بيئةٍ جديدة يعيش فيها الميسورون وأصحاب الثروات، حتى تغيّر ميزان حياته.

بدأ يُقلّدهم في اللباس والمطعم والسيارة، ويحسب أن التشبّه بهم طريقٌ للقبول بينهم.

ومع مرور الوقت، خسر جيبه، وتَبِعته عائلته في ضيقٍ لم يكن لهم فيه ناقةٌ ولا جمل؛ فقط لأنه أراد أن يعيش كما يعيش الغني والميسور الذي لا يهزّه صرف المال اتجاه مقتنيات لا داعي لها، وكأن القدرة على الشراء أصبحت مقياسًا للقيمة.

ذلك النموذج ليس فردًا بعينه؛ بل صورةٌ متكرّرة في حياتنا اليومية، نراها بين الأصدقاء والزملاء وحتى بين أفراد العائلة.

فما إن يجد الإنسان نفسه في بيئةٍ تختلف عنه ماديًا أو اجتماعيًا، حتى يبدأ دون وعيٍ في التماهي مع تلك البيئة، وكأن عليه أن يلبس ما يلبسون ويعيش كما يعيشون ليحظى بالقبول.

إنه تعايشٌ سلبي لا يقوم على التأقلم الواعي، وإنَّما على التقليد المرهق الذي يستهلك الجيب قبل أن يستهلك العقل، ويجعل الإنسان يلهث وراء مظاهر لا تضيف إلى قيمته شيئًا.

والأمر لا يختلف كثيرًا في جانب السفر والترفيه؛ فذلك الشاب أو تلك الموظفة لا يكادان يحتملان سماع زملائهم وهم يتحدثون بحماسٍ عن وجهاتهم الصيفية، وعن تلك الجزيرة الخضراء التي تغازلها نسائم الصباح وهبات المساء، حتى تتحرك داخلهما الرغبة ذاتها بالسفر إلى هناك، وكأن عدم المشاركة في تلك التجربة يُنقص من قيمتهما.

فيبدآن التخطيط المتعجّل، وربما يتقدمان لقرضٍ شخصي يُنفق بالكامل على رحلةٍ لا لشيء إلا لسدّ شعورٍ وهمي بالنقص، وإثبات أن لهما أيضًا صورًا في المطار، وتذاكر على الطاولة، وحقائب جديدة للرحلة.

إنه سباقُ مظاهر صامت، يدفع الإنسان أحيانًا إلى أن يعيش حياةً ليست له، فقط ليُقنع نفسه أنه ليس أقلّ من الآخرين.

هي ثقافةُ المقارنة التي تسللت إلى حياتنا حتى صارت مقياسًا للسعادة والنجاح. يقيس الإنسان نفسه بما يملك غيره، لا بما يملك هو، فيعيش في سباقٍ لا نهاية له.

وكلما ارتفع من حوله في المظاهر، زاد ضغطه الداخلي للحاق بهم، ناسيًا أن لكل إنسانٍ قدرته وظروفه، وأن المقارنة لا تصنع تقدّمًا؛ بل تسرق راحته وتشوّه نظرته للحياة.

من حقّ الإنسان أن يعيش سعيدًا كما يعيش الآخرون، وأن يهنأ بما يستطيع من زينة الدنيا ومباهجها، لكن بشرط أن تكون سعادته بقدْر قدرته، لا بقدرة غيره.

فالسعادة لا تُقاس بنوع السيارة أو مكان السفر؛ وإنَّما براحة البال وطمأنينة العيش. ومن الحكمة أن يعيش المرء في حدود ما يملك، لا في ظلّ ما يملكه الآخرون، فالقناعة هنا صيانةٌ للنفس من وهم المقارنة وضيق التكلّف، وليست حرمانًا.

في النهاية، ليست المشكلة في رغبتنا بحياةٍ جميلة ومريحة، فذلك حلم مشروع لكل إنسان؛ لكن المشكلة حين نحاول أن نعيش حياة تفوق قدراتنا وإمكاناتنا، فنقلّد غيرنا من دون وعي، ونلهث وراء مظاهر لا تمنحنا سعادة حقيقية. فالتقليد لا يصنع فرحًا، والمظاهر لا تمنح قيمة، ومن أراد أن يعيش بكرامة فليجعل واقعه ميزان خطواته، لا أقدام الآخرين التي قد تجرّه إلى طرقٍ لا تناسبه.

سيهات