آخر تحديث: 5 / 12 / 2025م - 1:30 م

فشل المؤسسات في الاحتفاظ بالكفاءات

الدكتور جعفر أحمد قيصوم

لقد أكدت الأبحاث والدراسات الحديثة في مجال الإدارة والموارد البشرية أن المؤسسات التجارية لا تفشل لأنها تفتقر إلى المال أو الأدوات أو التقنيات، وإن كانت هذه الموارد ركيزة أساسية لأي نشاط تجاري، لكنها تفشل حين تعجز عن الاحتفاظ بالعقول والكفاءات التي تصنع المال وتدير الأدوات وتبتكر الحلول.

وهذا ما أشارت إليه التقارير الدولية مثل تقرير جمعية إدارة الموارد البشرية «SHRM» ودراسات هارفارد بزنس ريفيو التي أوضحت أن أكثر من 70% من الكفاءات التي تغادر المؤسسات لا ترحل بسبب الرواتب أو الامتيازات، ولكنها ترحل بسبب الأسلوب الإداري وضعف بيئة العمل والثقافة التنظيمية السلبية داخل المنظمة.

لقد أصبح ما يسمى اليوم بـ «تسرب العقول» أو «هجرة الكفاءات الداخلية» ظاهرة إدارية خطيرة تهدد استقرار المؤسسات ومستقبلها التنافسي، ومن هنا يبرز السؤال الجوهري الذي ينبغي أن يطرحه كل قائد وكل صاحب منشأة على نفسه:

لماذا يترك الموظفون المتميزون مؤسساتهم رغم توفر الرواتب والامتيازات؟ وما الفرق بين الاحتفاظ بالكفاءات واستقطابها؟ وكيف يمكن بناء بيئة جاذبة تستبقي العقول المتميزة؟

لماذا يرحل الموظفون المتميزون

تقول القاعدة الإدارية: «الموظفون لا يتركون الشركات، بل يتركون المديرين».

أعتقد أن الأسباب الجوهرية التي تقف وراء تسرب الكفاءات لا ترتبط بالأجر أو الامتيازات فحسب، بقدر ما ترتبط بالعوامل النفسية والتنظيمية وجودة القيادة داخل المؤسسة، ويمكن تلخيص أبرز هذه الأسباب فيما يلي:

1- غياب التقدير والاحترام لدور الموظف

لا يوجد شيء يهدم روح العطاء داخل الموظف مثل شعوره بأنه غير مقدّر أو غير مهم، والتقدير هنا لا يعني المكافأة المالية فقط، بل يشمل الاعتراف بالإنجاز، وإشراك الموظف في القرارات، والثقة به واحترام أفكاره ومقترحاته.

وهذا ما أشارت إليه دراسة مؤسسة «Gallup» العالمية عام 2022 م إلى أن 79% من الموظفين الذين استقالوا طوعا صرحوا بأن السبب الرئيسي كان غياب التقدير وعدم الاعتراف بجهودهم.

فالاعتراف بالجهود ممارسة ممنهجة وعلنية تبرز أثر الشخص ونتائجه في الوقت المناسب وبالطريقة المناسبة عبر كلمات الشكر والتغذية البناءة.

ومن الأمثلة الملهمة على ذلك ما أعلنته شركة «كوكاكولا» في أحد تقاريرها بأن أحد أهم أسباب استقرار كفاءاتها هو تبنيها مبدأ ثقافة التقدير «Recognition culture»، حيث يتم الاحتفاء أسبوعيا بإنجازات بسيطة للموظفين، مما رفع معدل الرضا الوظيفي بنسبة 23%. وكما قال رجل الأعمال والملياردير البريطاني ريتشارد برانسون، مؤسس مجموعة «فيرجن» «Virgin» التي تضم أكثر من 400 شركة تعمل في مجالات متنوعة مثل الطيران والاتصالات والسياحة الفضائية:

«اعتنِ بموظفيك أولا، وسيعتنون هم بعملائك وشركتك».

2- التقييد الإداري وبيئات العمل القمعية

الكفاءات لا تهرب من العمل، ولكن تهرب من المدير السيئ، ومن الثقافة السامة، ومن المشرفين المحبطين. فحين تتحول بيئة العمل إلى شبكة من التعليمات العقابية والأوامر المتكررة دون تمكين أو ثقة، يتحول الإبداع إلى جمود، وتتحول المؤسسة إلى مقبرة للأفكار.

«فالناس عبيد الإحسان»، والإحسان هنا يشمل تمكين المبدعين وتوسيع حريتهم والثقة بهم قبل محاسبتهم.

وقد كشفت دراسة من LinkedIn Workplace Culture «ثقافة بيئة العمل بـ ”لينكد إن“» عام 2023 م أن 82% من الموظفين يفضلون ترك العمل على البقاء تحت إدارة محبطة أو متسلطة.

ولعل من أشهر الأمثلة على ذلك ما حدث لشركة «أوبر» عندما خسرت أكثر من 20% من قياداتها وكفاءاتها بسبب ثقافة الضغط والقوانين الصارمة وعدم احترام الآراء، مما أجبر مجلس الإدارة على تغيير الرئيس التنفيذي وإعادة بناء الثقافة المؤسسية. وفي ذلك قال رائد الأعمال بيتر دراكر:

«الثقافة التنظيمية تأكل الاستراتيجية على الإفطار»، أي أن الثقافة التنظيمية الصحيحة والحية هي ما تحول الاستراتيجية من حبر على ورق إلى واقع ملموس.

3- انعدام فرص التطور والنمو المهني

الطموح لا يعرف الأسوار، وعندما يطوق الموظف المتميز بقيود إدارية تعطل تقدمه وتخنق إمكاناته، فإنه يترك المكان لا تمردا، بل بحثا عن فضاء يليق بما يحمله من شغف وقدرة وطموح.

وقد كشفت إحصائية لشركة «ديلويت» «Deloitte»، وهي واحدة من أكبر الشركات المهنية في العالم في مجال الخدمات المهنية والاستشارات، عام 2023 م، أن 68% من الكفاءات التي غادرت وظائفها قالت إن السبب هو غياب فرص التطور المهني.

ولذا قال جاك ويلش، الرئيس التنفيذي السابق لشركة «GE»،:

«عندما يتوقف الموظفون عن التعلم، تتوقف المنظمة عن النمو».

4- غياب العدالة التنظيمية

الموظفون يغادرون حين يشعرون أن الترقيات ليست للأجدر، الأحقّ والأولى والأكثر استحقاقا، بل للأقرب أو الأكثر نفوذا، وأن المكافآت ليست للأفضل أو الأكثر إنجازا، بل للأكثر صمتا أو ولاء للأشخاص لا للمؤسسة. فالعدالة معيار استقرار لا يقل أهمية عن الرواتب والامتيازات، والولاء يبدأ حيث تنتهي الواسطة والمحسوبيات.

الفرق بين استقطاب الكفاءات والاحتفاظ بها

يخطئ من يعتقد أن النجاح يتحقق فقط عبر الاستقطاب وحده، وليس عبر الاحتفاظ بالكفاءات، وذلك لأنّ الاستقطاب عملية سهلة يمكن تنفيذها بالمال والإعلان والإعلام، أما الاحتفاظ بالكفاءات فهو مشروع قيادي طويل الأمد يحتاج إلى عدالة تنظيمية، وتمكين وظيفي، وبيئة صحية، وقيادة محفزة، وثقافة احترام وتقدير.

والحقيقة التي قد لا تعجب الكثيرين أن الكفاءات لا تهرب من العمل ولا من التحديات، ولكنها تهرب من الإدارة السيئة ومن الثقافة السامة ومن غياب العدالة وكتم الإبداع.

حلول عملية للحد من تسرب الكفاءات

للاحتفاظ بالعقول المميزة يجب أن تبدأ المؤسسات من القيادة الملهمة، فهي بيت العدالة وصانعة الثقة ومصدر الإلهام. ولبناء بيئة تستبقي العقول الطموحة لا بدّ من خلق ثقافة مؤسسية تنظيمية قائمة على العدالة والثقة وتمكين الموظفين وإشراكهم في اتخاذ القرارات، وتصميم المسارات المهنية الواضحة للترقي والتطور، بل وتدريب القادة على الذكاء العاطفي والقيادة المرنة، وكذلك تعزيز مبدأ التقدير المستمر وليس المكافآت السنوية فقط.

فالموظف الذي يعمل بصفته «موظفا» يعطيك وقته، أما الموظف الذي يعمل بروحه فيعطيك طاقته وإبداعه وولاءه.

الخاتمة

إن تسرب الكفاءات ليس لغزا إداريا ولا حدثا مفاجئا، بل نتيجة طبيعية لسلسلة طويلة من الممارسات القيادية والتنظيمية الخاطئة، كضعف التواصل وغياب العدالة وانعدام التقدير وتآكل الثقة بين الإدارة والموظفين.

والمؤسسات التي تفقد عقولها وكفاءاتها ستفقد بلا شك مستقبلها مهما امتلكت من مال أو تقنيات أو استراتيجيات.

وكما يقول جون ماكسويل:

«كل شيء يقوم على القيادة، وإن فشلت القيادة فكل شيء سيفشل.»

ولهذا فإن المؤسسات التي تستثمر في الإنسان قبل النظام، وفي القيادة قبل الإدارة، وفي القيم قبل الإجراءات، هي وحدها الباقية في سباق التنافس والبقاء.