مدير فور يور أكشن
منذ زمنٍ والجدل لا يخفت حول مفهوم ”المدير الجيد“. فثمة من يرى أن المدير الناجح لا يكتفي بممارسة سلطته الإدارية في توزيع الأدوار وصياغة الاستراتيجيات والسعي لتحقيقها، بل ينبغي أن يشارك فريقه العمل بدرجة ما، بوصفه أحد أفراده. بينما يرى آخرون أن المدير لا ينبغي أن ينغمس في تفاصيل العمل اليومية، فوظيفته إدارة الفريق وتوجيهه، لا القيام بمهامه. إنه المسؤول عن بناء فريق متكامل ينهض بالمهام التنفيذية تحت إشرافه لتحقيق أفضل أداء ممكن. ومع أن لكل من الرأيين منطقه وظروفه الخاصة، فإنني أجد في مشاركة المدير لعمل فريقه بقدرٍ معقول بعدًا أكثر واقعية وإنسانية في الإدارة. وعند هذه النقطة أود مناقشة طبيعة هذا الدور القيادي من وجهة نظري، داعمًا لفكرة المدير الذي يشارك موظفيه في بعض جوانب العمل، لما أراه في ذلك من منطقٍ ومردودٍ عملي.
أحمل تجربة مهنية في إدارة قسم الموارد البشرية، نابعة من مسارٍ إداري تدرّجتُ فيه من الوظائف الدنيا إلى العليا. وقد أكدت هذه التجربة ما ذهب إليه هنري مينتزبرغ (Mintzberg)، الذي يرى أن الفهم العملي لتفاصيل العمل شرط أساس لفاعلية القائد، إذ لا يمكن للإدارة أن تنفصل عن الخبرة الميدانية لمن يتولاها. كما تتقاطع هذه الرؤية مع ما طرحه روبرت غرينليف (Greenleaf) في نظرية القيادة الخدمية (Servant Leadership)، التي تؤكد أن القائد الحقيقي هو من يخدم فريقه ويمكّنه. ومن خلال هذا المنظور، يصبح التدرّج الوظيفي مصدرًا لوعيٍ إداريٍ أعمق، يمنح المدير قدرةً على تقدير الجهد والإبداع، وفهم تحديات موظفيه على نحو واقعي. ومع ذلك، لا يعني هذا أن المعرفة النظرية أو المهارات الإدارية العليا أقل أهمية؛ بل إن الجمع بينهما هو ما يصنع القائد الفعّال في النهاية. فهو يقود فريقه كما يقود مدرّبٌ مارس اللعبة من قبل، لا من وراء المكاتب أو عبر الأوامر الجافة. ومن ثمّ، فإن المدير الفعّال هو من يجمع بين الخبرة الميدانية والرؤية الإدارية، فيحقق أهداف منظمته بكفاءة واستدامة.
ما أدعو إليه هو أن يشارك المدير موظفيه ولو بقدرٍ يسير في ميدان العمل؛ أن يقرأ ويستمع ويفهم، بل وأن يجعل من أحدهم معلّمًا له في بعض المواقف. فالمعرفة - ولا سيما المعرفة النابعة من الممارسة الفعلية - تُنتج كفاءةً إداريةً أقدر على تشخيص المشكلات وصياغة الحلول الواقعية لها، كما تمنح الفريق روحًا تطويرية تفتح أمامه آفاق الابتكار والتحسين المستمر. ومع أن الإدارة من خلف المكتب قد تكون مجدية وضرورية في بعض البيئات شديدة التنظيم أو التي تعتمد على وضوح الأدوار وتسلسل الصلاحيات، فإن الاكتفاء بها يحدّ - في تقديري - من تفاعل المدير مع نبض العمل وتحديات موظفيه. فالمشاركة الميدانية لا تُضعف سلطة المدير، بل تمنحها عمقًا ومرونةً أكبر في توجيه الفريق وتحقيق الأهداف. وفي النهاية، ليس المقصود تفضيل نمط على آخر بقدر ما هو تأكيد على أن الإدارة الجيدة ليست قالبًا واحدًا، بل هي قدرة المدير على اختيار مستوى مشاركته بما يتلاءم مع طبيعة العمل وفريقه وبيئته التنظيمية. فالمدير البارع هو من يدير بعقله، ويشارك بقلبه، ويحكم بميزانٍ من الإنصاف والمرونة.













