آخر تحديث: 5 / 12 / 2025م - 9:11 ص

مَا بعدَ النِّهَاية/ مُلحَق وفهرَس الشَّخصِيات

هناء العوامي

شش تُحَلِّق عائِدة إلى الوطن في مركبتها الفضائية بسرعة تكاد تقترب من سرعة الضوء.

معها طاقم صغير جِداً، وعَيِّنات بشرية من الكواكب الثلاثة المأهولة في المجموعة الشمسية، منهم ماجد، أبو أمجاد، والتي شَعرت بفراغ بِداخلها حين وجدتها قد ماتت، كانت تفكر كم أنه لم يكن من الحكمة اصطحابه، خاصة وأن ابنته الأصغر سناً والأكثر لياقة لم تتحمل الرحلة، كان قراراً عاطفيا قد يكلفه حياته، لكن أحداً في كوكبها لن يفطن إلى ذلك، أو بالأحرى لن يهتم، الرحلة نفسها تكلف الكثير من الموارد لكن جسما بشريا إضافيا لا يعني الكثير، ربما أرادت أن تعاقبه لخسارتها ابنته، وكأن دميتها المفضلة قد ضاعت فتشبثت بمن أعطاها الدمية..

هذا ما كانت تفكر به حين اصطدم نيزك بجسم المركبة محدثاً أضراراً جسيمة، فحصت شش أضرار المركبة من خلال رسوم بيانية بألوان سلموحية لا تراها أنت! هذا وضع حرج لكنهم هناك يخططون له جيدا ويحسبون حسابه، كما أن للمركبة أجهزة استشعار كان يفترض بها أن تدمره إلى غبار رقيق قبل أن يمس المركبة، لكن قد يحدث أن يصطدِم على الرغم من ذلك..

ضبطت بعض الإعدادات ثم تركت المركبة تصلح نفسها بنفسها وأطفأت نظام الإنذار لكي لا يزعجها بالتفاصيل، هي أكثر شخص في كوكبها حتى الآن سافر عبر الفضاء، وقد بدأت تسأم من متابعة كل التفاصيل الصغيرة في كل مرة.. المركبة مصممة لتصلح نفسها حتى لو كان الضرر كبيراً، كما أن نظام الملاحة له أكثر من نظام داعم احتياطي.

إنها الآن تعرف الكثير عن قصة البشر، هذه الكائنات التي نشأت وتكيفت في كواكب قد يقول عنها قومها أنها بيئات سامة لا تصلح لاحتضان الحياة، قبل أن تكتشف هي وجود هذا النوع الهش من الحياة.. لكن الوميض السلموحي تحول فجأة إلى وميض أحمر، فقطع تأملاتها!

لقد ظلَّ الوميض السلموحي يرقص كظلٍّ جريحٍ على الجدران، كأنه يرمّم نفسه كما تفعل المركبة.

ثم احمرّ فجأة، كاستسلامٍ للهاوية.

لاحظته بالكاد.. بينما كان طاقمها قد أصيب بعدوى لامبالاتها بالإضافة إلى سُكرة نشوتِهِم برؤية ذلك العالم العجيب الذي لا يراهم لأول مرة.. كانوا مجرد أطفال يلعبون بصخب ثم ينامون بعمق... تلك كانت دورة حياتهم حالياً، هؤلاء هم خيرة علماء شعبها! فكرت متهكمة.

يفترض أن يكون الضرر الذي لحِق بالمركبة قد تم إصلاحه الآن أو كاد... ما الذي قد يكون أن...

ألقت نظرة إلى خارج المركبة من عدة اتجاهات.. ثم كاد أن يقتلها الرعب..

رأت نجما صغيرا باهتا، له لون لا تراه أنت ولا اسم له في أي لغة تعرفها.. لكن شش تراه، يبدو بعيدا جدا جدا مجرد نقطة صغيرة باهتة، لكنها تعرف جيدا هذا المظهر الخادع الذي قد يتجاهله من لا يعرفه...

..... لحظة! من الواضح أن المركبة انحرفت عن مسارها.. انحرافا طفيفاً في البداية لكنه أصبح يتعاظم...

يفترض بالمركبة أن تصحح مسارها تلقائيا لكن من الواضح أن هذا هذه المرة - لسبب ما - لم يحدث..! ربما بسبب الأشعة المنبعثة مِن... مِن..

هذا نجم نيوتروني!

وما دمتُ قريبة بما يكفي لأتمكن من رؤيته فإن...

تعرف شش أنها لو بدأت بالسقوط فلسوف تنتهي في نفس اللحظة، بل سينتهي أمرها في أقل من لحظة.

هذِهِ مركبة ذات تقنية متقدمة جداً وهي حصينة جداً، إنها لا تستطيع مقاومة الرياح النجمية وحسب، بل وتستفيد منها كمصدر للطاقة!

ولكن ليس هذا النجم.

ليس هذا النجم!

قامت فوراً بوصل نفسِها بِنيوياً بالمركبة، هذا يجعلها تشعر بأن جسم المركبة هو جسمها هي...

هي المركبة والمركبة هي..

والقرار الذي تتخذه ينفذ لحظيا.. كما تُدرِك كل بروتوكولات السلامة التي تنفذ آليا في نفس اللحظة، أقل من لحظة في الواقع..

لو أفسَدت أشعة قاما نظام المِلاحة أو بدأت بحرق هيكل المركبة فهي تريد معرفة ذلك فوراً.. مع أن وصل نفسَها بِنيَوِيّاً في مركبة تمر بظروف فضائية متطرفة خطِر جدا..

وكان أول ما أدركته هو أن المركبة كانت تحرِق وقودها بسرعة جنونية، تحاول أن تتحرك بأقصى قوتها وسرعتها، ولكنها في الواقع كانت تتحرك ببطء شديد محاوِلةً الإفلات من جاذبية النجم الشرسة.

لو ابتعدَت بما يكفي لتفلِت منه فسوف تتحرك بسرعة جنونية قد تحطم المركبة، كما أنها لن تلحق لِتعرِف إن كانت تتجه نحو المسار السليم، تشعر الآن بأنها كائن ضعيف لا يقل هشاشة عن البشر الذين وضعَتهم في حالة سُبات على أمل أن يصلوا إلى كوكبها أحياء.

هي المركبة والمركبة هي..

والآن هي تشعر بأن جسمها يتمدد..

لو شعرت بالحرارة فهذا يعني بأن الأمر انتهى.

شش تعرف أن ما تراه أمامها ليس مجرد نجم… بل جحيمًا كثيفًا من النيوترونات الملتفة على نفسها... وبما أنها رأته فهذا يعني أنها قريبة أكثر من اللازم. هي تدرك الآن أن مركبتها تتحرك ببطء شديد، ولكن هل باتجاه النجم أم بعيداً عنه؟ لم تستطع أن تحدد، قبل أن تصرخ في نفسها: ”بكلا الاتجاهين أيتها الحمقاء! المركبة تتمدد“.

لم يكن ما شعرَت به ألماً بالضّبط، بل نوع من الإدراك أن جسمَكَ يتمزق، قبل أن تقرر بنفسك قطع جزء منه لكي تنجو بالباقي، هذا فشل حقيقي، بعد أن حققت المستحيل واكتشفت كواكبَ مأهولة، وبرغم معرفة الجميع بخطورة المهمة، هل المعرفة تستحق كل هذه التضحية؟ بل وتدمير حياة كائنات واعية من عالم آخر؟

فكرت بذلك وهي تقوم بفصل جزء من المركبة ليختفي فورا ويُسحق بِداخل النجم النيوتروني، جزء كان ينام فيه أبو أمجاد، وكان يلعب ويجادل في ذكريات رحلته الفضائية الأولى جزء لا بأس به من طاقمها..

كل شيء انهار في نفسه، تداخلت الجدران والعظام والمعادن في كتلةٍ واحدة من النيوترونات الملتصقة…

وبدا أن الزمن نفسه قد توقف..

وأن الكون كله ملتف بصمت مطبق..

هذا الرعب الذي لا يراه أولئك البشر قد التهمهم وهم نائمون.

تذكرت لوم والدها على ارتباطها العاطفي بالعينات، كما قد يتعاطف البشر مع حيوانات التجارب... ”شوشو، إذا كنتِ مشفقة عليهم فاجعلي لِتضحياتهِم ثمناً“.. تضحياتهم!؟ وكأنهم اختاروا ذلك.

ندِمت على اكتشافها لذلك الكوكب المأهول وعلى غزوها للفضاء أصلاً.. لكن ذلك الندم لم يستمر طويلا، فالمركبة - رغم تلك التضحية - لم تتمكن من الإفلات من الجاذبية المرعبة لذلك الوحش الكوني صغير الحجم، وقبل أن تدرِك، كانت المركبة ترتجّ وتهتز وتترنَّح بعنف، كل شيء غير مثَبّت كان يسقط باتجاه النجم، ويضرب جدار المركبة مثل نيزك ثقيل، طامِراً نفسه فيه، فيما كانت هي تحاول التشبث بأي شيء لكي لا ترتطم بعنف بجدار المركبة الذي بدأ يتشقق، بينما كانت الأنوار الداخلية للمركبة في حالة جنون كامل وسطوعها يتذبذب في كل ثانية، أمّا جدار المَركبة المصنوع من مادة أكثر صلابة من أي معدن نعرفه في كوكبنا فأخذ يَتجعَّد كالقصدير الذي تلف به طعامَك، ويصدر أنيناً مكتوما ما لَبِثَ أن تحول لِصَرير صارخ مفزوع كصِياح الديناصورات في اللحظة التي سَبقت انقراضها.

آخر ما رأته كان النجم النيوتروني بحجم أكبر قليلا، ربما كالقمر بالنسبة لنا ولكن أصغر حجماً* وقد بدأ يتوهج بلون غريب لم تره من قبل قَط ولا تعرف له اسماً... يلتمع نابِضاً كحجر كريم غامِض من بُعد كوني آخر... وقد نسِيَت مع هول المشهد ورهبته كل أمرٍ آخر، وكل شعور بالندم أو الأسى، أو القلق بشأن الإرث الذي تركته للعالَم الواعي من الكون.

نظرَت في لحظتها الأخيرة إلى النجم بافتتان، ليكن.. على الأقل أُتيحَ لي أن أرى هذا الوحش من أقرب مسافة ممكنة قبل أن...

الآن لم تعد شش موجودة... قبل أن تُدرِك - رغم أن إدراكها أقوى من البشر بمراحل - كانت هي ومركبتها وما تبقى من طاقمها الذين وَجدت أحدَهم قد رأى النجم بدروه وفهِم ما يعنيه، لكن قبل أن تُحدِّثه ولو بنظرات العيون عن المشهد وما يعنيه كان كل شيء قد انتهى..

كل شيء وكل شخص حولها وهي نفسَها تفككت وتمزقت إلى شعاع من أجسام دون ذرية وسَقطَت بسرعة مذهلة تُقاتِل الزمن باتجاه تلك النجمة لِتَلتحِم بها.

كانت النهاية، لكنها كانت أيضًا اللحظة التي تمكنت فيها شش من رؤية هذا الوحش الكوني من أقرب مسافة ممكنة، مفتونة بروعة لا توصف، وقوة لا تُدرَك لذلك الكيان الجبّار قبل أن يبتلعها بالكامل.

بدت اللحظة الأخيرة ممتدة بلا نهاية، كما لو أن الكون حبس أنفاسه، وتحول إلى سكون صاف لا نهائي، يحدِّق فيها كما تحدق هي فيه.. تلك اللحظة ابتلعت ما قبلها وما بعدها، لتبقى هي وحيدة معلقة بين الوجود والعدم.

وشش، وشعاعها، والكون كله صَمَت، قبل أن يبتلعها النجم في حضن أزلي.

لم تغرق في بحر النيوترونات بل تفتَّتت فوراً لتصبِحَ جزءاً منه.

الزمن توقف، والكون كله أصبح صدى صامتاً للحظة الأخيرة.

وبعد لمعة خافتة كلمعان سـِوار من الياقوت يتلألأ بِوَجَل في عتمة كونية بعيدة، اختفى كل شيء كأن لم يكن.

وساد الصمت..... والظلام.


فهرس الشخصيات:

- شش: كائن فضائي، اكتشَفت وزارت كوكب الأرض لأول مرة سنة 2056 م، ثم مَنعت شعبها من تدميره، لكنها أعانتهم على استغلال مواردِه وأعانت البشر على البقاء بعد الكارثة كنوع من التسوية.

- خالد: أول إنسان لاحَظ وجود كائنات فضائية عاقلة على الأرض، في السنة آنفة الذكر، لكنه لم يتواصل معها مباشرة.

- نوال: أول إنسان يتواصل مباشرة مع الفضائيين، وينجو من تجربة السفر إلى كوكبهم.

- لورا: ولدت سنة 2718 م في مستعمرة بشرية في تيتان، قمر زحل، لكنها هاجرت لاحقا إلى كوكب الأرض، حيث عانت من الخوف من الشمس.

- تسنيم: مثل لورا.

- سارة: ولدت سنة 2721 م في كوكب الأرض، حيث عاشت فيه طوال حياتها، وهي مهتمة بدراسة فيسيلوجيا وعلم نفس البشر المولودين في كواكب أخرى.

- سوزان وراحيل وفاطمة: ولِدنَ في مستعمرة بشرية على كوكب المريخ ثم هاجرنَ إلى الأرض في شبابهن، أعمارهن مقاربة لسارة ولورا.

- أمجاد بنت ماجد: رسامة كانت تعيش في مستعمرة بشرية على تيتان قبل أن تُختَطف من قِبَل كائنات فضائية.

- ماجِد: ظَلَّ يبحث عن ابنته أمجاد، بعد أن شك في أن روبوتاً تقمص شخصيتها، ثم شك بوجود الفضائيين فقاموا بخطفه هو الآخر.

- مسك: فتاة المتحف.

- روزا الشقراء: مُدرِّسة في حضانة هاشم أخو فاطمة الصغير.

- أبو شش: هو أبو شش، البطلة الرئيسية للقصة.

* المعلومة غير دقيقة علمياً وبهدف زيادة التشويق الدرامي للقصة، لا يمكن لشش أن ترى النجم بهذا الحجم لأن جاذبيته ستكون قد سَحبتها قبل ذلك لِتلتحِم بالنجم قبل أن تُدرِك.