صراع بين الناقد والمنتقَد
لماذا يُقابل كلَّ تنبيه إيجابي اليوم وكأنَّه خصومة؟
لماذا تُفسَّر الملاحظات الصَّادقة التي تهدف للتطوير على أنَّها إسقاط أو استهداف؟ في العمل الاجتماعي تحديدًا، حيث يجتهد المتطوعون بقلوب مفتوحة، يبدو أنَّ الرَّأي لم يعد يُؤخذ على محمل البناء، بل يُستقبل كعدوان.
فهل المشكلة فيمن يشير إلى خلل، أم فيمن لا يريد أن يُنتقد؟
بات كثير من المحبين، والحريصين، يتراجعون عن توجيه أي ملاحظة أو تنبيه، لا لأنَّهم لا يرون الخلل؛ بل لأنَّهم يخشون أن يُساء فهمهم، وأصبح الرَّأي - حتى لو كان بنّاءً وصادقًا - تهمة جاهزة تضع النَّاقد في خانة ”الضد“.
لماذا؟
لأنَّ بعض النَّاس لم يعد يفرِّق بين من يُشير إلى الخلل بدافع حب، ومن ينتقد بدافع هدم.
أصبح المنتقد وكأنَّه يضع نفسه في مواجهة، فيُسكت صوته قبل أن يُفهم كلامه، وقد لا يكون هذا التردد وليد اللحظة، بل ناتجًا عن تجارب سابقة تركت أثرًا عميقًا. وربما انتقد مشروعًا، أو لاحظ خللًا في أداء جهة تطوعية، فوجد نفسه خارج الدائرة، أو خسر علاقات ظلَّ يحترمها لسنين؛ ولذلك، كم من ناقد مخلص نُظر له كناقم، لا لشيء إلَّا لأنَّه قال كلمة صادقة لم تجد من يسمعها بصدر رحب.
ومع تكرار هذا المشهد، أصبح بعض المنتقدين يتراجعون إلى الخلف، ويراقبون بصمت، ويرون الأخطاء تتكاثر، والقرارات تتكرر؛ لكنهم لا يملكون الشجاعة للمداخلة، فقد قالوها مرة... ولم يسمعهم أحد. فأصبحوا اليوم يتمتمون في داخلهم:
لقد أسمعت لو ناديت حيًّا
ولكن لا حياة لمن تنادي.
في الجهة المقابلة، يظهر المتلقي للمراجعة - في بعض الكيانات الاجتماعيَّة والتطوعيَّة - وكأنَّه في وضعية دفاع دائمة، لا يفرّق بين من يشاركه الرأي بدافع المحبَّة، وبين من يهاجمه فعلاً، وكثيرون يرون في النقد انتقاصًا شخصيًا لا ملاحظة موضوعية، ويعتقدون أنَّ كلَّ ملاحظة تعني فشلًا أو تشكيكًا في جهودهم، فيُغلق الباب قبل أن تصل الكلمة.
ويزيد الطين بلَّة، أنَّ بعض هذه الكيانات ترفع شعار: ”سياسة الباب المفتوح“؛ لكنك حين تطرق ذلك الباب، لا تجد على محياهم إلَّا الانزعاج أو البرود أو التجاهل، فتسأل نفسك: لماذا قلت رأيي؟
لماذا انتقدت أصلًا؟
وتخرج وأنت تردد داخلك: ليتني ما تكلمت.
إنَّ شعور النَّدم بعد النقد، هو مؤشر خطير؛ لأنَّه لا يعكس ردَّة فعل على خطأ في النقد، بل على بيئة لا تحتمل النصح، حتَّى وإن كان في مصلحة الجميع.
المشكلة هنا إنَّ بعض من يدير هذه الجهات - والتي يغلب على أعضائها الطابع التطوعي - لا يُغذي روحه بقناعة أنَّ النقد الصادق جزء من تطوير العمل، بل يظنُّه تهديدًا لمكانته أو تشكيكًا في جهوده، وهذا الفهم الخاطئ يحوّل كلَّ ملاحظة إلى معركة، وكلَّ ناقد إلى خصم، وكل رأي مختلف إلى ”تجاوز لا يُغتفر“.
من المهم أن نُدرك أنَّ ”سياسة الباب المفتوح“ في بيئات العمل الاجتماعي لا تعني فقط أن أطرق بابك بحديث مباشر، بل تعني أن يكون صدرك مفتوحًا لأي نصح يصل إليك، حتَّى لو جاءك من بعيد، من تغريدة، أو مداخلة، أو رأي منشور، فتجعله وكأنَّه وصل إليك من أقرب الأبواب، لا من خلف الجدران.
وإن تجاوزنا المسؤول نفسه، كثيرًا ما نصطدم بمن حوله من مقرّبين، كأصدقاء أو أقارب أو داعمين دائمين، يرون أن أي نقد موجّه إليه هو إساءة شخصية لهم، فيتحوَّل النقد البنَّاء إلى صراع ولاءات، وكأننا أمام معركة: من معنا ومن ضدنا.
لكنَّ السؤال هنا: لماذا لا يتحمّل هؤلاء أن يُنتقد من يحبونه؟
هل المحبَّة تعني تبرير كل شيء؟
وهل الولاء يمنع من الاعتراف بالخطأ؟
إنَّ النقد لا يُسقط الهيبة، ولا يُقلل من المقام؛ بل هو أحد أشكال الدعم الحقيقي، وما أجمل أن يكون القريب هو أول من يقول: أحسنت هنا، وأخطأت هناك، وأنت قادر على الأفضل. ولكن المؤلم أنَّ هذا الدفاع المفرط قد يضرُّ المحبوب من حيث لا يشعرون، ويحرمه من فرص حقيقية للتطوير؛ لذا، تذكَّروا: اليوم تدافعون عن مسؤول تحبونه، وغدًا سيأتي غيره، وقد تكونون أنتم من يسعى لإيصال النصح... فهل ستجدون صدورًا تحتمل النقد كما تمنَّيتم اليوم؟
وأخيراً:
إنَّ ثقافة النقد البنَّاء لا تُبنى في المؤسسات فقط، بل في البيوت، وفي المجالس، وفي الأحاديث اليومية؛ هي تربية على تقبُّل الرأي الآخر، وعلى الفصل بين النوايا الطيبة والمواقف الشخصيَّة؛ سواء كنَّا في جمعية تطوعيَّة، أو داخل أسرة، أو ضمن فريق عمل، أو بين الجيران، فإننا بحاجة إلى صدور تتسع للملاحظات، لا ترفضها، وإلى
عقول ترى النصح امتداداً للمحبَّة، لا خصومة متنكرة.
وحين نحسن فهم النقد، نرتقي به ونتقدّم، وأمَّا إذا أغلقنا بابه، فنحن لا نحمي أنفسنا كما نظن، بل نحرمها من فرصة النمو، ونضيِّق على عقولنا مساحات الإدراك.