الحب الذي أحياني
”كيف لا أحبه؟!
لقد كان يدعمني لأنهض، ويساندني لأرتقي.
يُشبعني من داخلي، يُبرئ آلامي، ويُكذّب شعوري بالفشل، ويُحطّم يأسي، ويصفّق لنجاحاتي“.
هكذا كتبت في الصفحة البيضاء الأولى من دفتر مذكراتها.
وإذا تجولنا بين الأوراق نجد كل أيامها تبدأ به وتنتهي عنده.
ففي بداية كل يوم تكتب: أبدأ صباحي بقراءة رسالته الصباحية…، وآخر اليوم تكتب: انتهى يومي.. تصبح على خير.
أيامها التي حرصت على تسجيلها هي الأشهر الثلاثة التي قضتها بعيدةً عنه مرافقة لابنتها للعلاج خارج البلاد.
روتين عادي تتخلله أحداث بسيطة، تزيد أو تنقص، ولا تتبدل حركة اليوم.
تناول الافطار في مطعم الفندق، الذهاب للمستشفى مع ابنتها المريضة، العودة للفندق، إعداد طعام الغداء، فهي لا تحب أكل المطاعم، وابنتها كذلك.
لقاءات مكررة أو وجوه جديدة، جنسيات مختلفة، تصيدهم بابتسامتها، وتقبض عليهم بطيب أخلاقها، تبدأ مع كل جديد بسؤاله عن اسمه وبلده وسبب حضوره، تتعاطف معه وتدعوا له فيسقط في شباكها.
هذا رجل جاء من الجزائر مع زوجته، وتلك مصرية جائت مع زوجها، وأم من الكاميرون مع ابنها، أخ كويتي مع أخيه، فتاة من عمان ترافق أمها، ورجل وزوجته من نفس بلادها يرافقان ابنتهما الصغيرة.
كلهم مرضى أو مرافقون، يحملون همًا واحدًا، ويقاسون نفس المتاعب: المواعيد، العلاج، السفر، السكن، التغذية.
كانت تستقبل الجميع في المطعم وقت الافطار وكأنهم في بيتها، وتسألهم عن مواعيدهم ومشاويرهم، وتساعدهم بخبرتها، وتقترح عليهم من تجربتها.
عندما تكون ابنتها في المستشفى فإنها تحمل معها القهوة العربية، فلا تبخل على الممرضات والعاملات، بل حتى الاطباء والطبيبات تجذبهم رائحة القهوة التي تنبض بالدفئ، فتوفر لهم لحظات من السكينة والهدوء.
عندما تعود للفندق بعد الظهر تجلس في الحديقة تسامر النزلاء، وتخفف عنهم، وتأخذ بخواطرهم، وتسمع فضفضتهن، وإذا غابت الشمس غابت معها، وتسللت إلى غرفتها تحمل أثقال اليوم، وتعب الجميع.
تلقي أحزانها في حضنه، وتسامره في أمورها، وتحاوره في حالتها، وترتاح من وعثاء اليوم، وتنام على رجاء أن تستيقظ لترى رسالة منه جديدة يتمنى لها يومًا جديدًا سعيدًا.
حديقة الزهور
5 أغسطس
ابتسمت وأنا أقرأ رسالتك، إذ تذكرت الصدفة التي عرفتنا على هذا الشاعر:
صباح الخبز والمقهى الصغيرُ بنا يزيدُ سعة،،
ويحفظُ كل ركنٍ فيه منا كل ما سمعه،،
أما كنا بكل الحب نقتسمُ الصباح معه.
اليوم صادف أن قابلت الحاج أبومحمد
حييته: صباح الخير عمي ابومحمد
يبتسم وقال: صباح الخير أيتها السيدة الجليلة.
قلت: أين ستذهب هذا اليوم؟
أجاب: ليست لدينا مواعيد، سنبقى في الفندق.
اقترحت عليه زيارة حديقة الزهور، وشجّعته بأن سيجد فيها ما يريحه.
قال بصوت منكسر: يريحني أن أعود إلى بلدي مع زوجتي وقد تعافت.
قلت: ستتعافى إن شاء الله وستعودون سالمين.
أخذ نفسًا عميقًا وقال: ياااارب
قلت: روّح عن نفسك يا عم وخذ معك أم محمد لتتمتعا بتغيير الجو.
ضياع الحنان
وفي 23 سبتمبر كتبت:
وصلتني رسالتك:
”صباحُ الخير، بالصَّوت الذي تُحبّين“
«الدّبلجة مُتوفّرة في خيالك»
ثم كتبت عن حادثة حصلت بعد الظهر: احتجتُ للراحة بعد يوم شاق، اضطررت للوقوف كثيرًا في المستشفى، وتنقلت بين غرف الاطباء للاطمئنان على صحة ابنتي.
ألقيت بجسدي المتعب على السرير وغفت عيناي ولم تكن هذه عادتي.
لحظات وإذا بالهاتف يرن، فتحت عيني لا أعلم أين أنا ولا في أي لحظة زمنية أعيش.
أخذت سماعة الهاتف وتحدثت بثقل اسأل عن المتصل:
قلت: نعم، من أنت؟
قالت: أمي لم تعد للآن، ماذا أفعل؟ وأخذت تبكي.
قمت فزعةً واستجمعت قوتي، وبأسرع ما يمكنني ارتديت ملابسي ونزلت للاستقبال.
سألتهم: ماذا حدث؟ أين أم نبيلة؟
قال العامل: لقد خرجت منذ الصباح الباكر، طلبت مني أن استدعي سيارة أجرة وذهبت.
قلت: لا تعلم أين ذهبت؟
قال: لم تخبرنا.
قلت: لماذا لا تسأل سائق سيارة الأجرة؟
وكأنه انتبه من غفلة، رفع الهاتف واتصل بالسائق الذي أوضح له أنه أوصلها للمجمع التجاري الذي يبعد أكثر من 20 دقيقة عن الفندق.
قلت له: اطلبه أن يأتي ليأخذنا لنفس المجمع.
جاء وخرجت ومعي نبيلة، وتوجهنا للمجمع، سألت حارس المجمع ووصفت له شكلها فأرشدني إليها.
تفاجأنا بوجود أم نبيلة تجلس حزينة على كرسي وحدها.
عانقتها نبيلة وهي تبكي وتتأسف على ما جرى، وتقبل رأسها ويديها، وتحمد ربها أن سلم أمها.
سألتها: سلامات ماذا بك؟
قالت: لقد أضعت عنوان الفندق ولم يساعدني أحد على تذكره، وسيارات الأجرة ترفض أخذي إلى أي مكان.
هدأتها وطبطبت على كتف نبيلة،
ثم عدنا للفندق سالمين ولله الحمد.
النهار الأسود
15 نوفمبر
اليوم صادف أن التقيت بسيدة طيبة جدًا ليست من سكان الفندق نفسه، لكنني التقيتها أكثر من مرة في المستشفى، أظن أنها قالت لي مرة عن بلدها، لعلها من أذربيجان، كانت سعيدة جدًا لأن ابنها أجرى العملية، وقد خرج غرفة العمليات وسيبقى 24 ساعة تحت الملاحظة.
هنأتها ودعوت لمريضها بالشفاء العاجل، عانقتني وهي تشكرني، وتدعوني لزيارتها للاحتفال بخروجه.
16 نوفمبر
زوجي الغالي:
أعتذر لأنني لم أقدم لك باقات التهاني بمناسبة ذكرى ميلادك، لم أنسه أبدًا، وأنت تعلم أنني لم أنسه أبدًا منذ تزوجنا، لكن حصلت حادثة جعلت الحزن يخيم عليَّ طوال اليوم.
الطفل الذي حدثتك عنه أمس، لقد توفي بسبب نزيف أصابه.
لم أتمالك نفسي عندما سمعت الخبر، ذهبت أبحث عن أمه وعندما رأتني عانقتني وهي تقول:
Zainab, see what happened!
Younis left us and went away.
ثم انفجرت بالبكاء، احتضنتها وحاولت مساعدتها بكلمات قصيرة «إنه أمر الله.. إنه في مكان أفضل.. لقد تخلص من ألمه» ثم فجأة ثقل لساني وأحسست أن الدنيا تدور ويحل الظلام.. لقد أغمي علي بسبب انخفاض السكر، ولم أنتبه إلا وأنا على السرير وحولي الممرضات.
كان يومًا عصيبًا مؤلمًا.
حماك الله، وتصبح على خير