في نظرية الصراع
تتميز نظرية الصراع بالثراء، نظراً لما تحتويه من دراسات واسعة ذات صلة بقضايا التغيير في المستويات المحلية والدولية، وتشمل تلك الأدبيات التعامل مع ظروف صراعية مختلفة، ومرتبطة نوعياً بالمواجهات العسكرية في الحروب الأهلية وحركات التحرر والانتفاضات وسائر النزاعات السياسية.
وتشمل نظرية الصراع، فنون إدارته وحله، وبحسب هذه النظرية، فإن حل الصراع، لا يحدث تلقائياً نتيجة لسيرورة داخلية فقط، أو بسبب فشل أحد المنخرطين فيه، بل ينبغي أن يجري التعامل مع الحل كاستراتيجية، إما عبر التصدي العسكري، أو المفاوضات. وأحياناً ما يكون تصعيد الصراع، هو السبيل لحله. وذلك ما حكم المواجهات بين قوى التحرر الوطني في العالم الثالث، وبين الاحتلال.
فالهزيمة التي تلحقها حركات التحرر الوطني، هي في الأغلب سياسية وليست عسكرية. فهزيمة المحتل، تكمن في عجزه عن مواجهة المواجهة، بسبب الاستنزاف الذي تتسبب فيه مقاومة الشعب المحتل، وما تلحق به من خسائر بشرية واقتصادية، تجعله يصل إلى نتيجة مفادها عدم قدرته على استيعاب المزيد من الخسائر.
المحتل غالباً، ما يأتي ثقافياً وتاريخياً وجغرافياً من خارج المنطقة التي يهيمن عليها. وهو باستسلامه لا يخسر موطنه الأصلي الذي قدم منه، في حين يخسر السكان الأصليون وطنهم، وهم بمقاومتهم لوجوده لا يخسرون سوى قيودهم.
وفي هذا السياق، يشير هايمز في كتابه «الصراع وحل الصراع»، إلى أن الظروف التي تؤدي إلى نشوء صراع ما، تتمثل في تبين عجز المواجهة بالأساليب المشروعة، وتزايد القوة النسبية لأحد فرقاء الصراع. يضاف إلى ذلك، يمكن أن تتسبب الانهيارات الاجتماعية، وانتشار الفقر، إلى تحفيز الصراع. وينبغي أن لا نغفل عن التوجهات أو التحولات الأيديولوجية عند أحد الفرقاء أو كليهما في تسعير الصراع.
وتؤكد أدبيات الصراع، أن تحقيق الغايات المنشودة منه تتطلب أن يكون له استراتيجية وتكتيك، كما ينبغي له أن يكون ملماً بكل تقنيات الوصول لتحقيق الأهداف، والمحافظة على المكتسبات. أحياناً
هذه القراءات للأسف، تغيّب حقيقة أن كثيراً من الحركات الاحتجاجية في بداياتها، وبضمنها حركات التحرر الوطني، تبدأ بأشكال عفوية، قبل أن تتحول إلى فعل منظم. كما تغفل أن الحافز من ورائها هو الظلم والجور الذي يلحق بالشعب المحتل.
فالشعب الجزائري على سبيل المثال، تعرض لاحتلال ليس له نظير في التاريخ، استمر لأكثر من اثنين وتسعين عاماً، وكان أسوء ما فيه، هو تعرضه لهوية الشعب المحتل، ومحاولته صهر هذا الشعب في لغته وثقافته. وقد نجح الاحتلال، إلى حد كبير في إذابة هوية الشعب الجزائري، بحيث بات معظم الجزائريين لا يستطيعون استخدام العربية. وقد شمل ذلك العجز حتى بعض قيادات الصف الأول للثورة الجزائرية.
حين انتزع الشعب الجزائري استقلاله، لم تكن مهمته الأولى بناء البلاد وتحقيق التنمية، ولكن استعادة لغته وهويته. وكان التمسك بالدين الإسلامي، من العوامل الرئيسية التي حمت تلك الهوية.
كان الفرنسيون، يلحون طيلة احتلالهم على فرنسة الجزائر، واعتبارها جزءاً لا يتجزأ من فرنسا. ولذلك حرصوا على إيجاد بؤر استيطانية فرنسية كبيرة، في مدن وهران وقسطنطينية والعاصمة الجزائر. وحين تحررت البلاد، قاتل المستوطنون الفرنسيون، للحيلولة دون تحقيق الاستقلال، لكن المقاومة الضارية للشعب الجزائري، كانت أقوى من مشاريعهم، فاضطروا للخروج من الجزائر صاغرين.
وإذا ما عدنا إلى نظرية الصراع والحل، وقاربناها مع المواجهات بين الفرنسيين والجزائريين، التي انتهت بتحرير الجزائر، فإن هناك مجموعة من النقاط التي ينبغي تسليط الضوء عليها. فالطابع الدينامي للتغيير، قد لا يرتب نتائج على الفاعلين فيه فقط، بل على نتيجة الصراع ذاته. فالعنف الذي يمارسه المحتل، وخسائره المتصاعدة في البشر والمعدات والمواقع، قد يسهم في بروز تعاطف كبير مع مطالب الشعب الذي يقبع تحت الاحتلال.
وذلك ما حدث بالدقة في فرنسا، في السنوات الأخيرة للاحتلال الفرنسي للجزائر، أثناء رئاسة الجنرال ديغول، الذي حملت وعوده الانتخابية، برنامجاً سياسياً لإنهاء المشكلة الجزائرية، التي أكدت كل التطورات اللاحقة في حينه، أن لا سبيل لذلك، سوى الدخول في مفاوضات مع قيادة جبهة التحرير، انتهت باستقلال الجزائر.
وما حدث في الجزائر، حدث في كثير من بلدان العالم الثالث، في روديسيا والكونغو، وفي فيتنام ولاوس وكمبوديا. وقد كانت تلك الأحداث من أهم معالم القرن العشرين. وأهم تأثير لها إيجاد نظريات جديدة في العلاقات الدولية، لعل الأبرز بين تلك النظريات نظرية الدومينو لهنري كيسنجر، ونظريته الأخرى، المعروفة بنظرية القوة، وأيضاً نظرية بريجنسكي، القوة والمبادئ.
ويبقى أن نشير إلى أن نظرية الصراع وحله تعرضت لعدد من الانتقادات، أهمها خلوها من الإشارة إلى الخصائص النوعية، التي تفعّل مستلزمات حركات التحرر الوطنية. يضاف إلى ذلك، أن أدبياتها، تجاهلت دور القوى الخارجية، في تسعير الصراعات المحلية، وقمع تطلعات شعوب العالم الثالث في الحرية والاستقلال، وحق تقرير المصير.
على أن نقاط الضعف تلك، لا تنفي أهمية منجزات نظرية الصراع وأدبياتها، في العلوم السياسية، والدراسات التي تهتم بالعلاقات الدولية. وستظل طالما استمرت النزاعات والحروب، دليلاً للباحثين والمهتمين، لفهم الكثير من أسباب الصراع، وسبل تحقيق السلام.