عَلي النَّاصر.. العُمدة.. رَحيلٌ مُفاجِئٌ أوجعَ قلوبَ محبيه
جاء خبر رحيله كالصاعقة على أهله وأصدقائه وجيرانه وزملائه. ما إن وضع أحد المؤمنين إعلان انتقاله للملأ الأعلى في (قروب) الحي، يوم الاثنين 21/ 10 / 2024، حتى انكتمت أنفاسي وحُبست كلماتي، فلم أنبس ببنت شفة، واكتفيت برمز قلب مكسور (💔) من هول المفاجأة! إذ كان معي في مجلسي الأسبوعي قبلها بليلة واحدة فقط (ليلة الأحد). جاء متأخرًا وهو يخبرني بأنه للتوِّ رجع من الأحساء، فأخذ (دوشًا) على عجل وبدَّل ملابسه وجاء ملتقيًا بإخوانه المؤمنين، على عادته في إعطاء هذه القيمة (الإخوة الإيمانية) حقَّها.
إنه الأخ المؤمن الشاب علي بن أحمد الناصر من قرية القرين في محافظة الأحساء، الشهير بكنيته (أبو حسن). بدأت علاقتي معه بمبادرة منه، قبل نحو أربع سنوات حين انتقلت للسُكنى في ضاحية الملك فهد، الحي الخامس - المركز. حينها لم أكن أعرف أحدًا. جئتُ غريبًا مستوحشًا في هذا الحي، أحمل معي هواجس الانتقال من بيئة نشأتُ فيها وترعرعتُ إلى بيئة لا أعرف عنها شيئًا، أقدِّم رِجلًا وأؤخر أخرى. ما إن حطَّت ركابي في هذه الأرض الجديدة، حتى جاءني رَجُلٌ بَاسِمُ الثَّغر جميلُ المحيَّا مرحبًا بي معرِّفا بنفسه: أنا علي الناصر، جارك المقابل، لا يفصل بيننا إلا الشارع، فمنزلي يقع مواجهًا لمنزله. أخذ يعرِّفني على ساكني الحي واحدًا تلو الآخر، يعرِّفني بأسمائهم وبلداتهم التي قدموا منها، بل أخذ ينظِّم لنا لقاءات بين الجيران بعضهم بعضًا، ويزودنا بأخبار الحي وتطوراته التنموية؛ وبهذا كان أبو حسن واحدًا من عوامل تبديد الغُربة وبناء الأُلفة لكل من يلتقي معه؛ إذ كان من أوائل سكَّان الحي الخامس - المركز.
وربما لا أبالغ إن قلت إنه أكثرُ رَجُلٍ له حضور في هذا الوسط واستطاع أن يبني علاقة مع من حوله، من دون فرق بين أبناء الحي وإن اختلفوا معه مذهبيًا، ولسان حاله: كلنا أبناء وطن واحد، تجمعنا أرض واحدة، وننضوي تحت رايته، والإسلام بقيمه وتعاليمه وأخلاقه هو الجامع لنا؛ ولذا أنا أطلقت عليه من باب الفكاهة (العمدة). عمدة الحي لكثرة اهتمامه ومزيد عنايته بجيرانه متفقدًا أحوالهم، بل كانت له مساهمات أخرى تتمثل في الوقوف مع من عرض له طارئ بحاجة للمساعدة وللتخفيف عنه، اتباعًا لتعليمات الإسلام في حقوق الجار والوقوف معه. فقد روي رسول الله ﷺ: ”أحسن مجاورة من جاورك، تكن مؤمنًا“، وعن الإمام علي : ”من حسن الجوار تفقد الجار“. (ميزان الحكمة، محمدي الريشهري 1/ 486).
وهو بهذا مصداق للآية الكريمة: ﴿وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ﴾ [النساء: آية 36]، ولأحاديث كثيرة مروية عن أهل البيت ، منها ما روي الإمام الصادق : ”عليكم بحسن الجوار؛ فإن الله أمر بذلك“، وعنه : حسن الجوار يزيد في الرزق". (يُنظر: ميزان الحكمة، محمدي الريشهري 1/ 486).
وإني لأجزم بأن هذه الشهادة للمرحوم أبي حسن يقر بها كل جيرانه؛ لأن كل واحد منه له موقف، بل مواقف. ومن المعتاد أن يقف على باب منزله يتحدث مع هذا الجار وذاك، سائلًا عنه وعن أحواله، مخبرًا له عن جديدِه، حتى أبنائي له مواقف معه وأحاديث، وهو يعكس مقدار حضوره في قلوب من عرفه وصادقه وأقام علاقة طيبة معه.
في الشهور الأخيرة واجهته مشاكل وصعوبات أخذت منه مأخذًا، فانقطع عنَّا، وما عدنا نرى طلته البهية. فوجئنا بذلك! لاحقًا رأيته وقد انخفض وزنه انخفاضًا كبيرًا. كنت أسأله عن سبب ذلك، فيَسِرُّ لي بعض همومه، ويتحدث لي عن بعض معاناته، لكنها كانت أكبر بكثير من كلماته المتقطعة، ومن حديثه المبتور. حاول أن يرمِّم ما حدث له، لكنه الموت كان يشق طريقه إليه. هذا الموت هو نهاية المنغصات، بل هو (الموت) ريحانة. عن رسول الله ﷺ قال: ”الموت ريحانة المؤمن“ (بحار الأنوار، العلامة المجلسي، 79/ 168). قال الشريف الرضي: ”وهذا القول مجاز، والمراد أن المؤمن يستروح إلى الموت تغوثًا من كروب الدنيا وهمومها وروعاتها وخطوبها، كما يستروح الإنسان إلى طيب المشمومات، ونظر المستحسنات“. (المجازات النبوية، الشريف الرضي، ص 210).
والموت تحفة المؤمن. عن رسول الله ﷺ: ”تحفة المؤمن الموت“، بل ”أفضل تحفة المؤمن الموت“، كما روي عن أمير المؤمنين . (ميزان الحكمة، محمدي الريشهري 4/ 2961). وعن رسول الله ﷺ: ”ما شَبَّهتُ خروجَ المؤمن من الدنيا إلا مثل خروج الصبي من بطن أمه من ذلك الغم والظلمة إلى روح الدنيا“.
وعلاقته بإخوانه المؤمنين لا تضيع عند الله سبحانه، فأول ثمارها عند قَبْضِ روحه. عن الإمام الصادق : "أما المؤمن فما يحس بخروجها (أي خروج روحه)، وذلك قول الله سبحانه وتعالى:
﴿يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ﴾ [الفجر: آية 27] ذلك لمن كان وَرِعًا مواسيًا لإخوانه وصولًا لهم". (يُنظر: ميزان الحكمة، محمدي الريشهري 4/ 2961).
وكان لي موقف الوداع، قبل ليلةٍ من رحيله حين كان جالسًا مستريحًا في مجلسي، ومعي ثلة من المؤمنين، وهو يحادث جاره أبا أحمد، فلما حانت ساعة انصرافه، قمتُ له مودِّعًا، وأنا لا أعلم بأنه الوداع الأخير. رَبَتُّ على كتفه، وهمستُ في أُذنه: أريد أن ألتقي بك، وأتحدث إليك!، لكن ذلك لم يحصل في هذه الدنيا الدنيِّة، فهل يحصل في العالم الآخر؟ وبالله المستعان، فهو خير مُعين.
إننا بفقدك يا أبا حسن، نفقد رجلًا طيبًا وأخًا مؤمنًا وجارًا صالحًا، لم نرَ منه إلا خيرًا، ولم نسمع منه وعنه إلا خيرًا. اللهم اكتب لنا هذه الشهادة عنه، واجعله عندك في أعلى عليين، واخلف على أهله في الغابرين، واجعله من رفقاء محمد وآله الطاهرين، صلواتك عليهم أجمعين، وعندك نحتسبه يا ربَّ العالمين.