قيامة عبادة الأنا...!
البعض تقتله فضائله، والبعض ترفعه في الشهرة خطاياه!.
بعد خطوات يسيرة في وسائل التواصل الاجتماعي، سيلتف حولك دعوات كثيرة لعبادة نفسك، ولتعظيمها، ولجعلها أعلى قيمة من غيرها، وأرفع منزلة ممن حولها، وأكثر فضيلة من غيرها في كل شيء!.
فستجد أحدهم يكتب في تعريف هويته «أنه سيتخلى عن كل أحد لا يقاتل من أجل الاحتفاظ به». وآخر ينقل لفيلسوف غربي قوله: «إنه حين يرغب في الحديث مع إنسان ذكي، فهو يبتعد عن الناس ليتحدث مع نفسه.». وستجد مقولة نتشيه تتكرر كأعمدة الإنارة في الشوارع «أن لا أحد يستحق حبه، ولا أحد جدير بثقته، وإن الجميع سيموت في نهاية المطاف». وستجد قوالب كثيرة من الألفاظ والكلمات تغويك بمنح نفسك فضيلة لا تستحقها، ووتمجد أنانيتك وجعل ذاتك محور الكون بوصفه حقاً أصيلاً من حقوقك، لا يجوز التنازل عنه!.
وإنك مع كل درجة ترفع فيه نفسك واستحقاقك من الغير، بذات المقدار يجب أن تحط درجة الناس من حولك، فأنت الذي يجب أن تلقي نظرة من عليائك الرفيع لتلتقط من الصرعى في طريق الصعود إليك من ترضى عنه، وأنت الذي تهرب من غباء من حولك للتحدث مع نبوغك الذي لا يبلغه غيرك، ولا يرتفع إليه أحد سواك، لذا فأنت بحاجة للحديث مع نفسك العظيمة الفريدة الرفيعة المتعالية العظيمة!.
إن غواية «عبادة الأنا» يتم تمريرها تارة بالمقولات الفلسفية، لفلاسفة في نفوسهم «علل كثيرة» كالغرور، وجنون العظمة، وفقدان المعنى، والفراغ الروحي، أو الحرمان العاطفي، فتحمل بعض مقولاتهم بعض هذه الأحمال. وينال منها من لا يفرق بين وصف حال النفس، وبين الرأي والتفلسف.
وأحيانا أخرى يتم تحريرها في وصفة نفسية بذريعة تعزيز الثقة بالذات، وإيمانها بنفسها، ولكن بخطيئة الانقلاب من الضد إلى الضد، من عقدة الشعور بالحقارة إلى تعظيم الذات والغرور وعبادتها.. فيخرجك من عدم الثقة بالنفس إلى إتلافها بطغيان الأنا وتعاظم الذات.
بشكل مطلق أول المعرفة جهل يتصف بالغرور!.
وأسوأ أنواع اليقين هو ذاك اليقين المتكون من سطور قليلة ومعرفة مستعجلة، وربما هذا سبب لشياع مقولات محملة برؤية غير أخلاقية، كالتي تحيط بنا في كل منقلب ننقلب إليه، من شعر ونثر وأحاديث الناس، ومحاضرات تطوير الذات.
أظن من الملح أن نعيد التذكير دائما..
بأننا ننتمي إلى منظومة أخلاقية قاعدتها العظمى: ﴿وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾ [الحشر: آية 9]. والإيثار في اللغة مصدر آثر يؤثر إيثارًا، بمعنى التقديم والتفضيل، يقال: آثر الشيء، أي: فضّله واختاره، ومعناه العملي: أن يقدم الإنسان غيره على نفسه في النفع له، والدفع عنه؛ بغية الحصول على الأجر والثواب من الله تعالى..!.
الوحي وخطاب الله صريح في رفضه جملة وتفصيلا لثقافة عبادة الذات، بل يجعلها أول رذائل إبليس ﴿قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ﴾ [ص: آية 76] وإن تعاظم الذات هذه كانت أم الرذائل التي لا تتوقف عن إنجاب الكبائر من الذنوب والخطايا، وهي التي طردته من رحمة الله التي وسعت كل شيء.!
ثم إن التواضع ليس في شعورك بأنك تنزل إلى غيرك، بل هو يقينك أنك أقل منه في فضيلة من الفضائل، وأنه دائما أفضل منك في شيء ما، تجهله ولم تبلغه ولم ترتفع إليه.
إنك على يقين من نفسك التي إن أنزلتها تواضعا رفعك الله في عين خلقه رفعة وشرفا ومحبة، وإن رفعتها بعبادة نفسك وتعظيمها، أبعدك ربك عن نوال رحمته، وأوكلك إلى نفسك وجعل كمالك في أعين الناس نقصا.
فكن على يقظة وحذر ولا تستخفك دعوات «عبادة الأنا»، مهما غيرت من ألوانها ولبوسها ومهما تعددت خطواتها فإنها تجعلك عاريا ولا تسترك.