زيارتي الأولى إلى مدينة موسكو: بين التاريخ العريق وتجربة الحياة اليومية
عندما وطأت قدماي مدينة موسكو في 4 أكتوبر 2024 م، شعرت وكأنني دخلت عالمًا يجمع بين حقبتين مختلفتين. كانت المباني الشاهقة ذات الطابع السوفيتي تحيط بي، بينما تتراقص الحياة العصرية على الأرصفة بجانبها. إنها المرة الأولى التي أزور فيها هذه المدينة العريقة، ورغم أنني لم أكن أعرف ما الذي ينتظرني بالضبط، إلا أنني كنت على يقين بأن موسكو ستكون تجربة لا تُنسى.
في هذا المقال، سأشارككم بعض الملاحظات والانطباعات الشخصية عن رحلتي، التي كانت مزيجًا بين الاكتشافات التاريخية والتجارب اليومية. سأروي لكم ما شاهدته، وما تعلمته، وأيضًا ما شعرت به خلال هذا الأسبوع المليء بالمغامرات. مع الأخذ بعين الاعتبار أن هذه التجربة هي تجربة شخصية ومحدودة حيث مكثت في مدينة موسكو لمدة أسبوع فقط وهذه التجربة ليست بالضرورة تعكس الواقع الحقيقي الذي لا يستطيع أي سائح يكتشفه في مدة قصيرة.
موسكو مدينة يتداخل فيها الماضي العريق مع الحاضر النابض بالحياة. تأسست في عام 1147 م، وتعتبر من أقدم العواصم في العالم. وأينما ذهبت، ستجد تحفًا معمارية تمزج بين التاريخ والحداثة. من أبرز المشاهد التي علقت في ذاكرتي كانت الكنائس الأرثوذكسية الجميلة التي تقف بشموخ بجوار المباني السوفيتية الضخمة، وكأنها تجسد مزيجًا فريدًا بين الروحانية والقوة.
أحد الجوانب التي لفتت انتباهي هو تأثير الثورة البلشفية والتي حصلت في عام 1917 م على طابع المدينة، حيث تركت بصمتها الواضحة على العديد من المعالم والشوارع. تمكنت مدينة موسكو من الاحتفاظ بجزء كبير من هويتها المعمارية الدينية والثقافية، على الرغم من التحولات السياسية والاجتماعية الكبيرة التي مرت بها. ومن ضمن الحديث مع المرشد السياحي الأستاذ أيمن بالإضافة إلى مطالعات عديدة في شبكة الإنترنت تبين لي أن هناك العديد من التأثيرات البارزة على طابع المدينة ومنها مثلا، وليس حصرا:
1. المباني السوفيتية الضخمة: بعد الثورة البلشفية، أصبحت مدينة موسكو المركز السياسي للاتحاد السوفيتي، مما أدى إلى بناء مبانٍ ضخمة مثل الكرملين، الذي أصبح مقر الحكومة. هذه المباني تعكس القوة والهيبة السوفيتية من خلال تصميمها الضخم والمهيب.
2. تماثيل القادة البلشفيين: انتشرت تماثيل قادة الثورة البلشفية في شوارع وساحات مدينة موسكو، مثل تمثال لينين وكارل ماركس، والتي ترمز إلى تقدير الشعب للشخصيات التي شكلت تاريخ روسيا السياسي.
3. العمارة الستالينية: تحت حكم ستالين، تم بناء ناطحات السحاب المعروفة ب“الأخوات السبع”، التي ترمز إلى القوة الصناعية والهيمنة السوفيتية، ولا تزال هذه المباني من أبرز معالم المدينة.
4. مترو موسكو: يُعد مترو موسكو أحد أعظم الإنجازات بعد الثورة البلشفية، حيث تم تصميم محطاته لتكون بمثابة“قصور للشعب”، مزخرفة بتصاميم فخمة تمجد الشعب العامل والنظام الاشتراكي.
5. تسمية الشوارع والميادين: بعد الثورة، تغيرت أسماء العديد من الشوارع لتكريم قادة الثورة مثل لينين، وتم تسمية العديد من الأماكن بأسماء أبطال الثورة قبل أن يتم إعادة تسميتها لاحقًا بعد انهيار الاتحاد السوفيتي.
أثناء تجوالي في مدينة موسكو، يبرز مترو موسكو كتحفة حقيقية. إنه ليس مجرد وسيلة نقل، بل يعكس عظمة المدينة. كل محطة من محطات المترو مصممة بعناية، تشعر وكأنك تتنقل في قصور تحت الأرض. المحطات مزخرفة بالرخام والثريات الضخمة، وكل محطة تروي قصة تاريخية عبر تصميمها المعماري الفريد. على سبيل المثال، محطة“بيلوروسكايا”تكرم المحاربين البيلاروسيين الذين دافعوا عن البلاد خلال الحرب العالمية الثانية.
استمتعت بجمال الزخارف الكلاسيكية التي تزين الجدران الرخامية، والثريات التي تضيء الأنفاق. كان من المدهش أيضًا معرفة أن بعض هذه المحطات تمتد إلى أكثر من 80 متراً تحت الأرض. وحسب رواية المرشد السياحي الأستاذ أيمن وكذلك بعض مواقع الإنترنت فإن البنية العميقة لبعض المحطات تعود إلى أسباب عدة، منها الأغراض الدفاعية خلال الحرب الباردة، وأيضًا لأسباب جيولوجية تتعلق بطبيعة التربة في مدينة موسكو.
لم تكن وسائل النقل في مدينة موسكو تقتصر على المترو فقط. الدراجات الهوائية والسكوترات كانت متوفرة للإيجار بسهولة عبر تطبيقات الهاتف الذكي، مما جعل التنقل في الشوارع الواسعة متعة حقيقية، خاصة في الأيام الذي يقرر السائح فيها استكشاف المدينة بحرية.
رغم قلة رجال الشرطة الذين يمكن رؤيتهم في الشوارع، فإنني شعرت بأمان شديد طوال رحلتي. موسكو تعتمد على شبكة ضخمة من الكاميرات التي تغطي الأماكن العامة، المتاجر، وحتى محطات المترو. وقد علمت من المرشد السياحي كما تأكدت منه عبر بعض مواقع الإنترنت الموثوقة بأن هناك أكثر من 200,000 كاميرا تعمل باستمرار لضمان الأمن.
في إحدى الليالي، كنت أتجول في أحد الأزقة وبالقرب من الساحة الحمراء، وكانت الساعة تقارب 11 مساءً. رغم خلو الشارع تقريبًا من السيارات، كان السكان يلتزمون بإشارة المرور الحمراء، وينتظرون بصبر الضوء الأخضر لعبور الطريق. كان هذا الالتزام بالقوانين مشهدًا يعكس مستوى عالٍ من النظام والاحترام في موسكو، وهو أمر قلما رأيته في مدن أخرى.
من واقع تجربتي الشخصية خلال زيارتي لمدة سبعة أيام، لاحظت أيضا أن الأمانة تحظى بأهمية كبيرة في مدينة موسكو. لم أتعرض لأي عمليات سرقة، ولم أشاهد حالات احتيال أو نصب واضحة. وعلى الرغم من أن الاحتيال يمكن أن يحدث في أي مدينة، إلا أن مدينة موسكو بدت آمنة للغاية، ولم أسمع عن حوادث من هذا النوع بين زملائي في الرحلة.
مدينة موسكو مدينة منظمة بشكل مذهل. الشوارع الواسعة النظيفة توفر إحساسًا بالراحة والانسيابية، وتنتشر الأشجار والمنتزهات في وسط المدينة، مما يتيح للسكان والزوار مساحات خضراء للاسترخاء. من اللافت للنظر قلة عدد المشردين أو المتسولين في الشوارع، ما يضفي إحساسًا بالأمان. كما تنتشر براميل القمامة في كل مكان وبمختلف المقاسات التي تناسب المكان، مما يعزز من مستوى النظافة العالية التي تحافظ عليها المدينة.
ورغم الأزمات السياسية والتوترات مع الغرب، بدت الحياة في مدينة موسكو نابضة بالحيوية. عند زيارتي للساحة الحمراء ليلاً، كانت مضاءة بالأنوار لإتاحة الفرصة للسياح والسكان المحليين للاستمتاع بالمشهد والتجول وكأنك في وضح النهار. في تلك اللحظة، لم أكن لأصدق أن هذه الدولة تخوض حربًا مع الغرب. المطاعم كانت مليئة بالأشخاص الذين يتناولون وجباتهم في أجواء مريحة، وعازفو الموسيقى يملؤون الشوارع بالحياة.
أما عن التسوق، فمدينة موسكو تقدم تجربة غنية بالتنوع. رغم أن عامل اللغة قد يكون تحديًا في بعض الأحيان، إلا أن التسوق في المراكز التجارية والأسواق الشعبية كان ممتعًا. المنتجات المحلية مثل شوكولاتة ”الوكا“، التي تعود لأكثر من 200 عام، ومنتجات الفرو التقليدية كانت من بين الأشياء التي شدت انتباهي. الأسعار تتفاوت بين المراكز الفاخرة والأسواق الشعبية، مما يتيح للسائح خيارات تناسب جميع الميزانيات.
ومع ذلك، لاحظت أن الأسعار في المراكز التجارية كانت مرتفعة بشكل ملحوظ مقارنة بدول الخليج، بينما كانت الأسواق الشعبية تقدم خيارات أكثر اقتصادية وتناسب مختلف الميزانيات.
معظم المحتوى في النقاط أعلاه يبرز الكثير من النقاط الإيجابية لمدينة موسكو. واسمحوا لي هنا بأن أسرد نقاطا أخرى ليست بالضرورة جميعها سلبية ولكنها مختلفة، وهي كالتالي:
1. في مدينة موسكو، المراكز التجارية الفاخرة غالبًا ما تكون موجهة للطبقات ذات الدخل المرتفع، بما في ذلك الطبقة الغنية من رجال الأعمال وأصحاب الشركات الكبرى، والطبقة الوسطى العليا التي تشمل العاملين في قطاعات مثل التكنولوجيا والمصارف. بالإضافة إلى ذلك، يتمتع المغتربون والوافدون الذين يعملون في الشركات الدولية بقدرة شرائية عالية تمكنهم من التسوق في هذه المراكز. كما أن الأثرياء الجدد الذين ازدهرت ثرواتهم بعد انهيار الاتحاد السوفيتي يشكلون جزءًا من الفئة التي تنفق في هذه الأماكن. في المقابل، يتوجه غالبية السكان إلى الأسواق الشعبية والمتاجر ذات الأسعار المعقولة.
2. الجدية التي لاحظتها على وجوه السكان في البداية جزءًا من شخصيتهم التي تشكلت عبر تاريخ طويل من الأزمات والحروب، بالإضافة إلى الوضع الاقتصادي والمعيشي حيث متوسط الدخل للفرد في موسكو يُقدَّر بحوالي 1,000 دولار شهريًا. ومع ذلك، علمت من بعض الأصدقاء المحليين أن هذه الجدية لا تعني قلة الترحيب أو الود، بل هي جزء من ثقافة احترام الخصوصية والتعامل بلباقة مع الغرباء.
3. دورات المياه العامة تتطلب رسومًا في معظم الأحيان. ورغم أن هذه الفكرة قد تبدو غريبة لبعض السياح، إلا أنها شائعة هنا وتساعد في الحفاظ على المرافق العامة نظيفة ومنظمة.
4. والمدهش وفي الجانب الآخر: أنه أثناء مغادرتي ودخولي، لاحظت أن إجراءات الدخول والخروج من المطارات تنطوي على مستويات عالية في التحقق من الهوية أكثر من مرة، كما يخضع الزوار للتفتيش أكثر من مرة لضمان سلامة الجميع. وهذه الإجراءات تتطلب وقتا إضافيا وعلى السواح أخذ الحيطة للذهاب إلى المطار في وقت مبكر.
5. خلال الثورة البلشفية، تعرضت الكنيسة الأرثوذكسية الروسية لتقييد صارم، حيث صودرت ممتلكاتها دون تدمير واسع للكنائس، وتم تحويل بعضها إلى متاحف. في المقابل، شهدت بعض الدول خلال فترات الاحتلال الغربي هدمًا للمساجد، مثل الجزائر تحت الاستعمار الفرنسي، والهند خلال الحكم البريطاني حيث تضررت مساجد في النزاعات الطائفية، بالإضافة إلى تدمير مساجد في البوسنة أثناء الحرب بدعم غير مباشر من الغرب، وفلسطين تحت الاحتلال الإسرائيلي المدعوم غربيًا. كذلك، خلال الاحتلال السوفيتي في دول مسلمة مثل أفغانستان والشيشان، قام الروس بتدمير العديد من المساجد والبنى التحتية الإسلامية، في إطار حملاتهم العسكرية، بهدف تقويض الهوية الإسلامية والمقاومة المحلية.
زيارتي لمدينة موسكو كانت رحلة لا تُنسى، مليئة بالاكتشافات. إنها مدينة تتناغم فيها العصور، حيث يقف الماضي جنبًا إلى جنب مع الحاضر. تنظيمها الفائق، وسائل النقل المبهرة، والنظام الأمني المحكم جعلوا من هذه الرحلة تجربة مريحة وآمنة. رغم التوترات السياسية، لا تزال موسكو قادرة على الاحتفاظ بجمالها وروحها الثقافية، مما يجعلني أتطلع لزيارتها مجددًا وربما استكشاف المزيد من مدن روسيا في المستقبل.