آخر تحديث: 21 / 11 / 2024م - 7:28 م

أنقذوا لبنان

يوسف مكي * صحيفة الخليج الإماراتية

لبنان بلد السحر والثقافة والجمال، حاضر دائماً في المخيال العربي، بقوة عطائه، فقد كان الحارس الأمين للتراث والراعي للمعاصرة، كما كان الرائد في مقاومة الاستبداد. منه ومن بقية بلاد الشام، انطلقت حركة اليقظة العربية، المناهضة للاستبداد العثماني، وكان نصيبه حصة الأسد في تقديم قوافل الشهداء من زعماء النهضة العربية ورجال الفكر، في المجازر التي ارتكبها الوالي العثماني جمال باشا.

وحين برزت، مع مطالع القرن التاسع عشر، حركة أدبية وفكرية وسياسية واسعة في المشرق العربي، وأنشئت الجمعيات العلمية، برزت أسماء لبنانية كبيرة أدت دوراً إبداعياً عظيماً في هذا المجال. فقد قام بطرس البستاني بترجمة التوراة إلى العربية، وألف معجم المحيط، ومعجم قطر المحيط، ودائرة المعارف من سبعة أجزاء. وترجم سليمان البستاني إلياذة هوميروس إلى العربية شعراً. وألف ناصيف اليازجي مجمع البحرين.

وفي مجال نشأة الصحافة في الوطن العربي، كان لبنان سباقاً، منذ وقت مبكر، في هذا المجال. فقد أصدر إسكندر شلهوب، ومن مدينة بيروت، «جريدة السلطنة»، وأسس خليل الخوري «حديقة الأخبار» عام 1858. ومن جهة أخرى، أصدر أحمد فارس الشدياق عام 1860 «جريدة الجوانب» في إسطنبول، وفي العام نفسه أصدر المعلم بطرس البستاني «نفير سوريا».

ما ذكرناه عن دور لبنان في صناعة الأدب والفكر ليس إلا غيض من فيض، فليس بالوسع تناول ما قدمه لبنان، في مجال تعزيز الأدب والفكر في هذه العجالة. وكان للبنان الدور الأكبر، في نشر إبداعات الكتّاب العرب، منذ بدء عصر الطباعة. وكان عدد كبير من أشقائنا، من الأدباء المصريين يكررون أن الكتاب يكتب في مصر، ويطبع في لبنان، ويقرأ في العراق. ورغم عدم دقة هذا القول، الذي يقلل من شأن بلاد الشام في صناعة الفكر والأدب العربي، لكنه يعكس، الدور الريادي لدور النشر في لبنان.

نكبة فلسطين، عام 1948، خلقت واقعاً جديداً في البلاد، حيث استقبل لبنان أعداداً كبيرة من اللاجئين الفلسطينيين، استقبل اللبنانيون، بترحاب كبير أشقاءهم ونشأ ما يربو على الخمسة عشر مخيماً، في أماكن متفرقة من لبنان. وبقيت معظم تلك المخيمات قائمة حتى يومنا هذا.

صحيح أن واقعاً جديداً، عاشه لبنان بعد النكبة، لكنه لم يكن في الغالب من نتائجها، بل كان من إفراز حالة القسمة الطائفية التي تأسس بموجبها النظام السياسي اللبناني، وعرفت مجازاً بالميثاق الوطني غير المكتوب. وبموجب هذا الميثاق، فإن رئيس الجمهورية ينبغي أن يكون مسيحياً مارونياً، ورئيس الحكومة يُختار من بين المسلمين السنة، ورئيس البرلمان من بين المسلمين الشيعة. وكان لهذا النظام تبعاته السلبية الكبيرة، على مستقبل لبنان، حيث تسبب في نشوء حربين أهليتين، في نهاية الخمسينات، ومنتصف السبعينات من القرن المنصرم. ولا تزال تبعاته مستمرة حتى يومنا هذا.

نظرت بعض القوى، لوجود المخيمات الفلسطينية في لبنان، على أنها تشكل خللاً في المعادلة الديموغرافية، على حساب المسيحيين. لكن تبعات النكبة، وما لحقها، وبشكل خاص نكسة الخامس من حزيران/ يونيو عام 1967، خلقت واقعاً جديداً، حين انطلقت حركة فتح لمناهضة الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين. واستمرت حالة الجذب والطرد، بين المقاومة وبعض القوى اللبنانية، حتى عام 1978، حين أقدمت إسرائيل على اجتياح الأراضي اللبنانية.

وفي صيف عام 1982، أقدمت إسرائيل، بتوجيه من رئيس حكومتها مناحيم بيغن على احتلال لبنان، وبلغت العاصمة بيروت، التي صمدت ثمانين يوماً في مواجهة الغزو. وانتهت الحرب، بطرد منظمة التحرير الفلسطينية، بقيادة ياسر عرفات من لبنان. وتوزعت قواتها بين سوريا واليمن وتونس، واتخذت منظمة التحرير، من مدينة الحمامات في تونس مقراً رئيسياً لها.

وعلى قاعدة طرد الاحتلال من لبنان، تأسست حركة مقاومة الاحتلال، وتحرر جنوب لبنان في عام 2000 من الاحتلال حيث انسحبت القوات الإسرائيلية من دون قيد أو شرط، وبقيت مزارع شبعا، محتلة حتى يومنا هذا. ومرة أخرى، حدثت مواجهة عنيفة بين اللبنانيين وجيش الاحتلال في حرب تموز/ يوليو عام 2006، انتهت بهزيمة الاحتلال. ووقف العرب جميعاً، حكومات وشعوباً، لدعم لبنان، والإسهام في إعادة إعمار ما خلفته تلك الحرب.

ما يواجهه لبنان الآن، حرب إبادة همجية، يستكمل بها الاحتلال الإسرائيلي حرب الإبادة في غزة، منذ أكثر من عام. فقد تجاوز عدد القتلى في فترة قصيرة جداً، الألفي شهيد، وعشرة آلاف من الجرحى، جلهم من المدنيين، شيوخاً ونساءَ وأطفالاً. وقد بلغت الوحشية الإسرائيلية، في غطرستها حد تدمير بنايات عدة في منطقة واحدة، لمجرد الشك، بوجود قيادي فيها، ليتكشف لاحقاً بعد ارتكاب المجزرة أنه لم يكن موجوداً في تلك البنايات. وتلك في العرف الإنساني والدولي، وضمن مبادئ هيئة الأمم المتحدة، جرائم حرب موصوفة.

لقد تسببت الحرب، حتى هذه اللحظة في نزوح مئات الألوف من السكان، في بيروت والبقاع وصيدا عن مساكنهم، ليصبحوا من غير مأوى. وليس من المنطقي أخلاقياً وقومياً وإنسانياً، السكوت عن هذه الجرائم. وقد حان للعرب جميعاً، أن يسددوا بعض الدين الذي في أعناقهم للبنان، وأن يرفعوا أصواتهم عالياً لوقف حرب الإبادة الظالمة التي يتعرض لها أهلنا في لبنان، فهل حان للضمائر أن تستيقظ قبل فوات الأوان.