العتبات النصية في مجموعة «أصغر من رجل بعوضة»
هل يريد حسن البطران لقصصه أن تكون مرآة ننظر من خلالها إلى أنفسنا ونحن نعيش حياة أقرب إلى العبث؟
بدأ الاهتمام بالعتبات النصية، أو ما يعرف بالمناص paratexts، بشكل جدي في النقد الأدبي الحديث، مع أعمال الناقد الفرنسي جيرار جينيت في الثمانينات من القرن العشرين، وهو الذي صاغ المصطلح وقدم له دراسة شاملة في كتابه عتبات seuils، الذي نشر في عام 1987، والعتبات النصية تشمل العناصر المحيطة بالنص الأدبي، مثل العناوين، المقدمات، الإهداءات، الاقتباسات، اسم المؤلف، دار النشر، والملاحظات الختامية، وتلعب العتبات النصية دورا حيويا في توجيه القارئ، وتقديم سياق إضافي لفهم النص وتفسيره.
وفي هذا المقال سنقوم باستنطاق العتبات النصية لمجموعة القاص حسن علي البطران القصصية، المسماة «أصغر من رجل بعوضة»، والصادرة عن دار لوتس للنشر والتوزيع بمصر في عام 2009.
موقع العنوان أسفل الصفحة، بألوان مختلفة، وأصغر من رجل بعوضة صفة لمحذوف، فما هذا الشيء الموصوف؟ وتسعفنا الذاكرة باستحضار مقولة شائعة من التراث الاسلامي، وهي الدنيا لا تساوي عند الله جناح بعوضة، ولكن كم تساوي دنيانا عندنا نحن؟ هل صارت الحياة تافهة خالية من ذلك الاحساس، الذي يجعل الانسان يشعر بأنه جزء من نبض الكون؟ هل صار خليفة الأرض يشعر بالضآلة؟ ولماذا استخدم الكاتب رجل البعوضة بدلاً من جناحها؟ خاصة ونحن في عصر ميزته الأساسية هي السرعة، سرعة المواصلات، سرعة تلقي المعلومات، سرعة انتشار الأخبار، سرعة التصديق، سرعة النسيان، سرعة الانهيار النفسي، سرعة تبديل القناعات والآراء، الوجبات السريعة، الملل السريع، وإذا كانت الاستعارة الأشهر تعلقاً بالسرعة هي الجناح، حيث نقول على جناح السرعة، هل نعاني من البطء في تطورنا النفسي والروحي نتيجة هذه السرعة، ولذلك استخدم الرِّجل بدلا عنها؟، وهل هذا هو مصدر تعاستنا، الذي جعل حياتنا الخالية من السعادة الحقيقية، أصغر من رجل بعوضة؟
حسن البطران من أكثر الكتّاب العرب غزارة في الانتاج في مجال القصة القصيرة جدا، فقد نشر أكثر من خمسة عشر مجموعة، وقد أطلقت عليه الناقدة الدكتورة رجاء نمر لقب أيقونة القصة القصيرة جداً.
قصص قصيرة جداً.. وموقعها في الغلاف على اليمين بمحاذاة العنوان، باللون الأحمر، اللون نفسه المستخدم لكلمة «أصغر» في العنوان، ولعل هذا التصنيف مصيدة جيدة للقارئ العجول، الذي لم يعد قادراً على الصبر لتلقي النصوص الطويلة.
«كلما ضاقت العبارة اتسع المعنى»، يسعى الكاتب إلى تهيئة القارئ لتلقي النص بإيجابية، فيدعوه لتوسيع الآفاق الدلالية للعبارات، وهذا الاقتباس يشير ضمنياً إلى بعض خصائص قصة الومضة، وهي الإيجاز والرمزية، إن التلقي النشط أمر عسير في عصر الملهيات، ولذلك يدفع الكاتب باقتباس آخر دون أن يذكر مصدره، وهو «لا يُكتب الإبداع على قراطيس للترف»، الكاتب هنا يقول بأن ذاته تحترق، وأنه لا يكتب من أجل الترف، إنه يحمل رسالة، يحمل رؤية تشريحية للواقع، إنه قلق تجاه الإنسانية الضائعة، وعلى القارئ أن يكتشف ذلك، أن يقرأ ما بين السطور، ولا يكتفي الكاتب بهذا الاقتباس، كأنه غاضب تجاه مستوى القراءة السلبية التي تكتفي بالتسلية، دون مشاركة للكاتب في احتراقه وإبداعه، ففي عصر الملهيات والمشتتات والأخبار العاجلة، لا وقت للتأمل، وبلا تأمل ستكون القراءة سطحية، وهذا ما يجعل الكاتب يضع اقتباساً بين معقوفتين موقعاً باسمه الأول: حسن، «لا تقرأني من خلال حروف إبداعي»، فكأنه يقول إن معالجة النص أهم من القراءة، وان استدعاء الدلالات واكتشاف الرموز أهم من الحروف.
إلى عصفوري الصغير الذي نظرت الحياة في عينيه ابني وهاب.
الإهداء مساحة لتعبير الكاتب عن مشاعره تجاه الآخرين، ولهذا الإهداء وقع خاص على نفس القارئ، فهو يلفت انتباهه إلى دفء العلاقات الحقىقىة لا الافتراضىة.
«ونبدأ بملاحقة البعوضة»، وهذه مقدمة قصيرة جدا تناسب النوع الأدبي، الذي اختاره الكاتب، فما الذي تثيره في نفوسنا هذه العبارة؟ هل يريد لقصصه أن تكون مرآة ننظر من خلالها إلى أنفسنا، ونحن نعيش حياة أقرب إلى العبث، ولذلك رسم صورة ساخرة لنا ونحن نلاحق بعوضة لا قيمة لها؟ ربما، والطريف في الأمر أن الكاتب في الخاتمة القصيرة جداً يقول: «ولن نتوقف عن ملاحقة البعوضة وإن انتقلت إلى مكان آخر».