المعاصرة والمجتمع المدني
السؤال الذي يطرح أكثر من علامة استفهام هو: لماذا الهروب من مواجهة القضايا التي يحملها عصرنا الراهن؟ ولماذا يجري تهميش النقاش في القضايا المعاصرة؟ إن التعاطي مع قضايا ومشكلات العصر لا يعني تبني كل ما يحمله من معطيات. كما لا تعني رفضاّ للتناغم معه. لكنها تؤكد بالضرورة نوعا من التواصل والحضور من خلال آلية مختلفة لما هو سائد في مجتمعاتنا، عبر منهجية حديثة لا تحمل المزيد من الالتباسات والإشكاليات حول مصطلحات مستخدمة بحدّة، كالهوية والذات والمعاصرة والحداثة والأصالة والتراث إلخ. وحين ننظر إلى اللذين يتمسكون بشعار العودة إلى الماضي، وإلى الذات والأصالة والهوية، ويطالبون بتطبيق قوانين الشريعة مهما كلف الأمر، نراهم يتجاهلون ويتركون ما هو مفيد ومضيء في التراث، فيحملون إشكالية تاريخية تؤكد وقوعهم في التناقض الذي يسقط مشاريعهم التاريخية، لأنهم يستخدمون نفس الأفكار والمناهج والمسائل من إقصاء وتكفير من أجل الوصول إلى غاياتهم. وهم بالأصل يدعون إلى مقاطعة الحداثة والمعاصرة بحجة أنها تتناقض مع التراث والهوية اللذين يجب أن نتسلّح بهما من أجل الخروج من جاهلية هذا العصر.
إننا كأفراد يجب أن نعيش في مجتمع معاصر تتوفر فيه مقومات الحياة المدنية، ونحن كبشر نعلم أنه إذا أردنا أن نكون معاصرين علينا أن نعيش هذه الحياة المدنية، ولكن ما ذا نفعل في ظل غياب معالم المجتمع المدني؟ إن الانسجام ما بين الحاضر والماضي، وعدم التنكّر للهوية مطلوب، ولا يعني المطالبة بمواكبة العصر التخلي عن الماضي، وإنما غير المرغوب هو الانغماس في احداث الماضي وعدم التفكير في المستقبل، وهذا هو العائق الذي يقف أما تقدّمنا وانطلاقنا.. ليس المطلوب أن نأخذ ما يمليه علينا الغرب من أفكار ورؤى مسمومة وملّوثة بل الاستفادة بقدر ما يمكن من تجاربه واختراعاته العلمية، ومحاولة السعي لتطوير مجتمعنا بما يتناسب مع قيمنا..
ولتفادي المخاطر القادمة فلا بد من رصد التيارات الفكرية المقاومة لتلك الأفكار الخبيثة، ومن ثم اخضاع هذه المظاهر للدراسة واقتراح بعض الأساليب والوسائل لمواجهتها ومحاولة التخلص من آثارها. وهذا نتاج العولمة التي انطلقت في التسعينيات من القرن الماضي. يحذر الكاتب «عبد الحي زلوم» في كتابه «نذر العولمة» الصادر في عام 1999 يقول“ إن ثقافة وأنظمة العولمة يقودها نظام امتصاصي طفيلي حوّل الاقتصاد العالمي إلى كازينو للمقامرة بثروات الآخرين ومقدراتهم، كما أورثت حضارة العولمة ظاهرة الاستهلاك، وإطلاق العنان للشهوات والرغبات، والتفكك الأسري، والجريمة المنظمة، وخلقت دوما في كل مجتمع وأمة طبقة الواحد بالمائة المسيطر على مقدرات الأمم، في حين خلقت عوالم ثالثة من بقية شعوبها. ويستعرض الكاتب عددا هائلا من الكتب والمقالات التي تحذر من هذه العولمة وتدعو لمواجهتها.. ولعل اختيار عنوان الكتاب“ العولمة المسئولة”لمؤلفه كلوس شواب مؤسس منتدى دافوس الاقتصادي، كانت السبب للرد على العولمة اللامسؤولة. يقول كلوس“ ففي عالم تلاشت به حدود الدول، أصبح لزاماً إيجاد حدود عالمية بديلة تتمثل في إيجاد الآليات التنظيمية، والقانونية والإجرائية لنتلافى الآثار الخبيثة لثورة العولمة“. لذلك علينا أن نحقق كافة أسباب القوة السياسية والتفاوضية والاقتصادية والعسكرية حتى نستطيع أن مواجهة هذ المدّ الهائج.