كم عِلة داوت عِللاً ونِعمة أضحت نِقماً
بدءًا، أعتذر من القراء الكرام عن بعض الألفاظ المحلية العامية التي وردت لغرض التوضيح وتقريب المفهوم:
كلمة“عِلة”لها عدة معانٍ في معاجم اللغة، ولها اصطلاحات في كتب الفقه تختلف باختلاف السياق المقصود. يهمنا هنا المتداول في الوسط الاجتماعي، حيث تعني“حالة مرضية تصيب الكائن الحي”، سواءً الإنسان أو الحيوان أو النبات، وتستمر لفترة زمنية قد يُشفى منها كليًا أو جزئيًا، أو قد تلازمه حتى الممات.
يُقال:“زيد عليل”، أي به مرض مزمن يلازمه. يُقال أيضًا:“حيوان متحرون”، أي شاحب اللون وكئيب، بمعنى فيه عِلة. أما في النباتات:“شجرة لا تنمو دائمًا، دبلانة معلولة”. ويُطلق مصطلح العِلة كذلك على المصنوعات المتحركة مثل الآلات؛ كأن يُقال عن سيارة كثيرة الخراب:“كلما أصلحتها عادت، يامن شرى له من حلاله عِلة”.
وكذلك يُستخدم المصطلح لمن لا يأتي بخير ولا يستفيد من التكرار، بحيث يتثاقل الناس من صحبته ولا يوفق في المهام الموكلة إليه. وقد يُقال مثلًا في حالة تذمر الأب من ابنه:“هذا عِلة”، أو يُقال عن الجار السيئ أو الموظف المعطِّل أو من يعيق حركة المرور:“عِلة”.
وحتى في الحياة الزوجية، يُقال:“زوجتي علتني، ويش بلاني بها؟ لا تنتهي طلباتها، كل يوم حنة ورنة”. وهي تقول:“زوجي يعل القلب، بيموتني من القهر، هذا حظي النحس اللي جابني له، يجيب لي طماطم بدل الخبز، وتعبان دايمًا!”. وفي هذه الأمثلة، يغلب على الحديث التشاؤم، وغالبًا ما يكون بلا مبرر، بعكس من يعاني فعليًا من علة جسدية ويتكبد آلامها وسهر الليالي.
وباستعراض مواقف هذه العِلل، نجد:
أولاً: العِلة الحقيقية: البعض يتعرض لإصابات أو عاهات، وإن لم يُصرِّح بها، تظهر علاماتها بوضوح على وجهه أو جسمه. في هذه الحالة، عليه أن يتقبلها بصبر وشكر، وأن يسعى جاهدًا في علاجها؛ فقد تكون نعمة تدفع بلايا خفية عنه. تجاهل هذه العلة قد يضاعفها. وعلينا كمجتمع أن نواسيه ولا نقلل من شأنه أو نهمشه، بل نجالسه ونساعده وقت الحاجة ونعامله بالحسنى. لا ينبغي أن نسأله بشكل متكرر أو نحقق في حالته، فهذا قد يحرجه ويحطم معنوياته. ويجب أن نتجنب الشماتة، لأن ليس كل علة معدية. ومن يدري، قد يكتشف الطبيب شيئًا أخطر يعالجه، فينطبق عليه القول:“عِلة داوت عِللاً”.
ثانياً: العِلة المعنوية: المصائب بأنواعها عِلل، لكنها قد تتحول إلى نِعَم:
أ - الفقر: قد يكون علة، ولكن قد يقودنا للسعي والاجتهاد للتخلص منه. إذا تركنا الاستجداء واتجهنا للعمل الجاد، فقد نخرج من جحيم الفقر إلى نعيم الرخاء.
ب - تكرار الفشل: قد يكون علة في مراحل معينة، ولكنه في الواقع يقودنا إلى الطريق الصحيح إذا أحسنا التعامل معه. الفشل قد يعلِّمنا الكثير ويُوجِّهنا نحو النجاح.
ج - الفراق: علة مرّة المذاق، مثل الطلاق، ورغم أنه لا يُتمنى، فقد شُرع كحل لإنهاء مشاكل متراكمة. وفيه فرج للمتضرر وفتح لأبواب الخير. فقد تكون هذه العلة“دواءً”للعلل الأخرى.
ثالثاً: العِلة المزاجية: أحيانًا نقابل أشخاصًا يعترضون على أفعالنا أو يخالفوننا، ونعدّهم“عِلة”لأنهم، في نظرنا، يعوقون مصالحنا وفرصنا. ولكن قد ندرك لاحقًا أنهم كانوا على حق، وأنهم حمانا من الوقوع في مهالك كدنا أن نقع فيها. فهي“عِلة”منقذة.
في النهاية، يجب ألا نتشاءم من العِلل، سواءً الحقيقية أو المعنوية أو المزاجية. لا يجب أن نفرح بالنِعَم؛ فقد تكون في العِلة فرج ونجاة وثواب، بينما قد تكون النعمة بلاءً وهلاكًا وعقابًا. كما قال المتنبي:
لعلّ عتبك محمودٌ عواقبه
وربّما صحّت الأجسامُ بالعللِ
قد يُنعم الله بالبلوى وإن عظمت
ويبتلي الله بعض القوم بالنِّعَمِ