عبد الله «8»
بعد أسبوع التقيت بـ «عبد الله» سألته: أين كنت يا صديقي؟ القراء يسألون عن بقية القصة..
أجابني مبتسماً: لقد كنت مشغول بالعمل، وبعض الالتزامات العائلية.
قلت: هل نكمل بقية القصة، توقفنا عند «قبولك في كلية الجبيل»، وانتهاء فترة معاناة البحث عن مقعد دراسي...
ضحك عبدالله وقال: ولكن بدأت مرحلة تحدي من نوع آخر..
قلت له: أنا أحب التحديات...
قال عبدالله: نعم التحديات، تصنع منك شخصية قوية، الإنسان إذا واجه تحدياً ما، فإنه إما يضرب وإما يهرب. وبالنسبة لي لم أفكر بالهروب في يوم ما... كنت أعي هذه المقولة: ”أن الثقة تدفع القدرة والقدرة يختبرها التحدي، فأقبل التحديات لتقوي قدراتك وتزيد ثقتك بذاتك“
قلت له: هل لك أن توضح.. أراك تتحدث بلغة الفلسفة..
ضحك عبدالله وقال: سأكون صريحاً معك...
قلت: أحب الصراحة... وقصتنا منذ أن بدأنا أحدثها هي في قمة الصراحة...
قال عبدالله: نعم، شكرت ربي لهذه النعمة فقد تم قبولي في كلية الجبيل الصناعية، بعد مشوار طويل دام سنة ونصف «أي 3 فصول دراسية»..
في ذلك اليوم خرجت من المسرح بعد حضور اللقاء التعريفي والترحيب بالطلاب المستجدين، نظرت حولي... تأملت الكلية.. وقلت في نفسي بدأنا المرحلة الجديدة... مرحلة لا تقبل المزاح... إن ما فهمت من اللقاء التعريفي أن السنة الأولى أو ما تسمى بالسنة التحضيرية في الكلية هي بمثابة «المنخل» لا يبقى فيها إلا القوي... وعليّ أن أكون قويا...
توجهت مع الأصدقاء «هاني آل ناس» و«حسين القفاص» لإدارة السكن، وتمت الإجراءات بكل سهولة، فأصبح لدينا غرفة في إحدى عمارات السكن بالكلية، وهذا سهل من أمورنا الدراسية فلم نكن نعاني من مواصلات من السكن للكلية، ولم نكن نعاني من الذهاب للمطاعم، كل شيء كان متوفر «البقالة، المغسلة، الملاعب»... العمارة التي كنا نسكن فيها كان أهل القطيف والأحساء يشكلون نسبة 80% من السكان، ولذا كنا متآلفين مع مجموعة من الطلاب...
بدأت الدراسة السنة التحضيرية وكانت الدراسة جادة لا تقبل الإهمال، أو الغياب، كانت أهم المواد «إنجليزي ورياضيات» وكان يتطلب من الطالب الحصول على درجة «D,C» في كل مادة، وفي حال حصولك على درجة «D» في الفصلين كان يتطلب منك إعادة المادة لترفع درجتك إلى «C».
في نهاية السنة التحضيرية كان يتطلب مني إعادة مادة «الإنجليزي» لأرفع درجتي إلى «C»، وهنا بدأ التحدي..
قلت: يعني بدأ بالجد..
قال عبدالله: نعم كنت في حالة تحدي لأني أدرس مادة واحدة فقط «إنجليزي» ويجب أن أحصل على درجة أرفع، كما أنني أدرس بدون مكافأة
قلت: ومن أين كنت تصرف على نفسك؟!
ضحك عبدالله وقال هل سمعت عن المثل الشعبي أو المقولة المشهورة «ادخر قرشك الأبيض ليومك الأسود»
أجبته: نعم.. وماذا يعني ذلك؟!
قال عبدالله: من هنا بدأت التحدي، لقد طبقت هذه المقولة في الفصلين السابقين وكنت أدخر لي مبلغ بسيط من المكافأة لمثل هذا اليوم، والحمد لله انتهى ذلك الفصل ونجحت في مادة الإنجليزي بمعدل «+C» وهذا نتيجة المثابرة والإصرار على النجاح.
بعد أن تخصصت كهروميكانيكا قررت أن أدرس صيفي لكي أعوض ما فاتني في الفصل السابق، ولكي أرفع معدلي.
اخترت مادة رياضيات، ومادة علم نفس، وظننت أن هاتين المادتين ستكونان المنقذ لمعدلي.. إلا أن النتيجة كانت صدمة مزلزلة...
سألته كيف ذلك؟!
قال: دخل علينا دكتور علم النفس... ابتسم وقال: ما شاء الله كلكم من الشباب...
كانت كلمته تعني لنا الكثير..
سألته: هل لك أن تكون صريحاً كما عهدتك؟
قال عبدالله: دكتور علم النفس هو عربي الأصل بريطاني الجنسية، وكانت تفوح منه رائحة الحقد والكراهية، بل انعكست تلك النفسية السلبية على هندامه فلم يكن ذو هندام أنيق، كانت ملابسه توحي لك بأنه مراسل أو موظف عادي جداً...
قال لي أحد الأصدقاء عليك أن تحذف هذه المادة، فهذا الدكتور لن ينجح عنده أي طالب...
لم أخذ كلامه على محمل الجد... حتى حدث ما لم يكن متوقعاً...
قلت: ماذا حدث؟!
قال عبدالله: بعد الانتهاء من الفصل الصيفي قررت أن أذهب للمدينة المنورة، حيث بقي على بدء الدراسة أسبوعان...
في أحد الأيام وبعد الانتهاء من الزيارة التقيت بأحد الأصدقاء ممن يدرس معي في الفصل الصيفي، سألني هل عرفت عن نتيجتك؟!
أجبته: لا لم أعرف النتيجة...
تردد صديقي في أن يخبرني...
قلت له: قل لي هل عرفت نتيجتي؟
قال: نعم للأسف... لم تنجح في المادتين...
كان كلامه سهما موجعاً... في اليوم الثاني أصابني هبوط في السكر ونقلت على إثره للمستشفى...
كنت متألما مما حدث... كنت متوقعاً أن أرسب في علم النفس... ولكن الرياضيات كان صدمة مؤلمة...
سألته: لماذا تصف الرياضيات بهذا الوصف؟!
قال عبدالله: كنت أتوسم من دكتور الرياضيات خيرا، ولكنه خيب ظني فيه.
كان تعامله معنا تعاملا جافاً...
تساءلت مع نفسي ألم يعلم هذا الدكتور أن الطلاب يدرسون صيفي لكي يرفعوا معدلهم؟!
لماذا لم يتفضل علينا بدرجة D لم أكن أريد أكثر من هذه الدرجة.. ولكن حدث ما حدث وندمت كثيرا فقد ضاعت الإجازة الصيفية بلا نتيجة بل كانت نتيجة عكسية..
بدأنا الدراسة واضطررت لأن أدرس مادة علم النفس مرة أخرى... وكانت الصدمة...
في المحاضرة الأولى دخل علينا الدكتور البريطاني مبتسماً ابتسامته الصفراء قائلا «ما شاء الله نفس الشباب» فقرأت على معدلي الفاتحة...
بل إن أحد الطلاب غادر الكلية بسببه!!
وجاءت النتيجة للمرة الثانية «F» في مادة علم النفس...
قلت يا لك من ظالم... يا لك من حاقد... شرس...
ذهبت إليه وقلت: أريد إعادة تصحيح ورقتي...
نظر إليّ متعجباً من هذا الطلب، لم يكن متوقعاً أن يطلب أحد الطلاب هذا الطلب... قال لي: ماذا قلت إعادة تصحيح؟!
صمت قليلا ثم قال: صدقني أني لم أظلمك... كانت درجتك 59.. كنت على وشك النجاح...
فقلت له: ولماذا لم تساعدني... هي درجة واحدة لماذا لم تعطني إياها... هذه المرة الثانية أرسب في مادتك... إنني أطالب بإعادة تصحيح ورقتي مهما كان الثمن...
نظر إلي وقال: هناك طلاب كثيرون يطلبون إعادة التصحيح ولكن تكون النتيجة أنهم لم يحصلوا على درجة النجاح...
قلت: أنا متأكد من إجابتي...
قال: إنني أعدك أنك إذا درست المادة عندي سوف تنجح.. أعدك بذلك...
قلت: لقد دمرت معدلي... إنني ذاهب للإدارة... لن أسكت عن حقي... مهما كلف الأمر...
ذهبت للإدارة وتحدثت مع الموظف المختص بإعادة التصحيح... لكن الموظف صار يتهرب... ويرسلني لموظف آخر... وموظف آخر يهدأ الوضع... خصوصاً أن هذا دكتور بريطاني ولا يمكنك محاسبته... قلت لذلك الموظف... وعندما أطرد من الجامعة بسبب ظلمه ماذا أستفيد... إنني ظلمت وأريد حقي...
بدأ الفصل الدراسي الجديد ولم أتمكن من إكمال قضية «إعادة التصحيح»... وبقي ذلك الدكتور الحاقد يسرح ويمرح في أروقة الكلية...
في أحد الأيام عدت من الكلية... كنت متعباً... كنت أفكر في معدلي... هل يمكن أن أصححه...
حتى تبادر لذهني طريقة أنك تستطيع دراسة مادة سبق لك أن درستها والهدف هو أن ترفع معدلك... بحثت عن مادة «آلات دقيقة» وجدتها عند أحد الدكاترة.. سبق لي أن درستها وحصلت على معدل ممتاز... سارعت وسجلتها قبل فوات الأوان... وكانت النتيجة أن وقف معي ذلك الدكتور الفاضل وتحسن معدلي بعد أن درست مادة علم النفس عند دكتور هندي الجنسية وحصلت على معدل «C» وبدأت الأمور تتحسن...
قلت: الحمد لله..
قال عبدالله: لا ليس كما تظن... كان هناك ضيف آخر... هل تسمح لي أن أحدثك عنه...
قلت تفضل... هذا ما أريده... أريد أن أعرف التحديات التي عاصرتها بمختلف المسميات...
قال عبدالله: سأعود بك إلى السكن، سبق وأن قلت لك أن عمارتنا كانت للقطيف والأحساء... كنت أشعر أن في هذه العمارة غرفة مباركة... كنت أرى شاباً عليه سيماء الصالحين... خلوق.. هادئ... خرج من تلك الغرفة... سلم عليّ مبتسماً قائلاً: أهلاً بك... يبدو عليك علامات التعب... هل يمكنني مساعدتك؟!
قلت له: ربما من حرارة الجو... ربما من الدراسة...
قال: حياك الله في غرفتي... تفضل... ربما تجد ما يهدأ من أعصابك...
نظرت إليه وقلت في نفسي: ماذا يريد مني هذا الشاب... هل أذهب معه؟
قال: هيا لن تخسر شيئاً...
ذهبت معه...
فتح الغرفة...
لا أعلم ما تلك الرائحة الزكية التي استنشقتها... وما ذلك النور الذي تسلل شعاعه لقلبي...
ابتسم وقال أهلا بك...
للقصة بقية