الباحث
«أبحث عن طائر يغني خارج السرب / عن موجة خارج البحر / وعن دروب لا تؤدي إلى لحظة الوصول..» هذا ما قاله الشاعر الراحل أحمد عائل فقيهي. وكثيرهم الذين يشاركونه في هذه الرغبة، فمنذ أن فتح الإنسان الأول عينيه، وهو يحلم بالوصول إلى فض المجهول؛ ليزداد امتلاكا ومعرفة بالكون من حوله، ولكن الفرق بين فرد وآخر، بل بين أمة وأخرى، هو الاكتفاء بفض مجهول ما، أو عدم الاكتفاء، أي الظمأ الدائم إلى فض مجهول آخر وآخر بدون نهاية. والراحل فقيهي من الفريق الذي لا يرتوي أبدا، إنه عاشق لدروب لا تنتهي. وشغفته حبا رغبة البحث. ماذا تبحث عنه يا فقيهي؟ أبحث عن فرد أقول له: من فضلك «ابن لي مقعدا في السماء / لعلي أرى زمنا غير هذا الزمن»
الزمن الذي شن عليه الشعراء غاراتهم اللغوية، ورجموه بكل الصفات السوداء، مثل اللؤم والغدر وأخواتهما، هو الزمن النفسي الذي تشترك في جريانه المخيّلة والذاكرة معا، وتحتشد فيه النجاحات والإخفاقات، وتبني فيه الاحتمالات أعشاشها، والأماني ميدانا لكرة القدم. هذا الزمن، لم يخفف عنه وطأة تلك الصفات إلا عمّنا حين جعل الإنسان شريكا له في كل ما فعله حين قال: «وكأنا لم يرض فينا بريب الدهر/ حتى أعانه من أعانا / كلما أنبت الزمان قناة / ركب المرء في القناة سنانا»
«الزمان ما أنت فيه» هذا ما قاله أحد الصوفية، وقد نظر إلى الزمن من إحدى جوانبه، وهو الجانب الفيزيائي. أما الزمن النفسي، فهو يتمرد على الزمن المحدد، ويحتوي على جنات النعيم عند من ولدوا في ليلة القدر، وعلى الجحيم التي «ترمي بشرر كالقصر كأنه جمالات صفر» عند من ينشد مع الشاعر سليمان العيسى «من لوّن الأعمار مذ أنشئت / وخصني بالكالح الأسود؟»
الأوقات القصيرة التي جمعتني بالراحل فقيهي كانت كافية للانطباع الأول والأخير بأنه يتصف بالوداعة والتلقائية في سلوكه الاجتماعي، بحيث يغرس فيك اليقين بأنه لا يعادي أحدا، أما في سلوكه الفكري، فهو يحاول «أن يمسّ الفرقدين براحتيه» كما يقول أبو العلاء؛ لأن «كل شيء طلول» كما يقول هو في إحدى قصائده، وإذن: لا ملجأ إلا الفرار من هذا الزمن إلى زمن آخر، وهكذا فعل.