آخر تحديث: 31 / 10 / 2024م - 11:58 م

عبدالله «6»

رضي منصور العسيف *

قال عبدالله: عدت للبيت ومعي ملفي...

رأتني أمي... سألتني ما هذا الملف...

قلت لها: لقد سحبت ملفي من كلية التقنية بالدمام... لا أريد أن أدرس فيها...

قالت أمي: «ليش يا ولدي... ليش...» لم أصدق أن أجدك تدرس في الكلية... بعد عناء طويل.. حصلت على كلية... ليش سحبت ملفك... سوف أتحدث مع والدك وإخوتك... لازم ترجع للكلية...

نظرت لأمي وقلت لها... لقد سحبت ملفي وانتهى كل شيء...

فكانت صدمة لعائلتي...

قلت له: ليس صدمة لعائلتك بل أنت الآن صدمتني... لماذا سحبت ملفك؟!

قال عبدالله: يا صديقي.. كانت مغامرة... ربما قال البعض أنت متهور... ولكن دعني أخبرك بالحقيقة...

مشكلتنا نحن الطلاب أننا صرنا نبحث عن الكلية التي تقبل المعدل وليس البحث عن الكلية التي تتوافق مع طموحنا... نريد أن نتعلق بأي قشة مهما كانت... لا يهم ما هو التخصص... المهم أن أجد مقعدًا جامعياً... وهذا ما كنت أبحث عنه...

لم أجد نفسي تميل للكلية التقنية... كنت أذهب في تلك الأجواء الحارة وأعود متعباً... الدراسة كانت باللغة الإنجليزية وهذه هي السنة الأولى التي يطبق فيها مثل هذا النظام ولهذا كانوا يقبلون أي طالب حتى تكتمل الفصول الدراسية... ولم تكن الفصول مهيأة للدراسة... وهناك ملاحظات أخرى لا داعي لذكرها... كما قلت ربما البعض صار يلومني لأني سحبت ملفي لأنه لم يشعر بالمعاناة التي عانيتها... قلت له: هل تقصد أن السكري صار يرتفع ويهبط...؟

قال عبدالله: لا ليس هذا مقصودي... السكري كان في الحدود المقبولة... ولكن ظروفي الشخصية لم تتوافق مع الكلية... والأمر الآخر أنني كنت أرغب في التقديم مرة أخرى في الجامعات، حيث أن بعض الجامعات تقبل مثل معدلي بسهولة كما قال لي البعض... ولذلك غامرت وسحبت ملفي...

قلت له: وهل تم قبولك؟

قال عبدالله: للأسف لم أقبل... ذهبت للرياض وجدة مرة أخرى لعلي أحظى بمقعد في الفصل الدراسي الثاني ولكن لا فائدة... الجامعات لم تغيّر «نسبة الثانوية» وأصبحت بلا دراسة مرة أخرى...

قالت أمي: والآن ماذا تريد أن تعمل...

قلت لها: سوف أعمل... نعم سوف أعمل...

قالت أمي: وهل ستبيع الحليب مرة أخرى؟!

قلت: لا... لن أبيع الحليب... سوف أعمل...

سألت عبدالله: متى توقفت عن بيع الحليب؟!

أجابني مبتسماً: بعد أن دخلت الثانوية... توقفت عن بيع الحليب... وفي تلك السنة لم تكن الكمية التي يحضرها الوالد من المزرعة تستحق الذهاب للمسجد... فصار البعض يأتي للمنزل ويشتري منا «حليب أو لبن»...

دعني أكمل لك القصة...

في ذلك اليوم ذهبت لمكتبة النور «مقابل مدرسة معن بن زائدة المتوسطة» بالدبابية... تحدثت مع صاحبها الأخ العزيز حسين السنان وقلت له: أريد أن أعمل معكم في المكتبة...

كانت لنا علاقة طيبة معه...

سألني وماذا تريد أن تعمل؟!

أجبته: سوف أكتب بحوث أو أي شيء بالكمبيوتر..

قال: ولكن هذه الوظيفة ليست عندنا...

قلت له: سوف أعمل إعلان ونلصقه على باب المكتبة...

وافق حسين السنان «أبو علي» على الفكرة وقال: أنا لن أتدخل في أي مبلغ... أنت تحدد المبلغ المطلوب من الزبون... ولن آخذ منك أي مبلغ... فقط سأستلم الطلبات وأعطيك إياها...

اتفقنا على هذا العمل.... وسارت الأمور على أحسن حال... صارت الطلبات لا تتوقف...

ذات يوم اتصل بي أبو علي السنان وطلب مني أن أحضر للمكتبة يوجد بحث باللغة الإنجليزية وصاحب البحث يريده مستعجل «اليوم»...

ذهبت للمكتبة واستلمت البحث «كان مطبوعاً على ورق» وكان صاحب البحث يريد أن يغير فيه بعض التعديلات «حذف وإضافة»...

سألني هل يمكنك أن تنتهي منه اليوم المغرب الساعة السادسة...

ضحكت وقلت لأبي علي وهل يظن صاحب البحث أن عندي فانوس علاء الدين «شبيك لبيك البحث جاهز بين يديك»

ضحك أبو علي ثم قال: ربما يظن ذلك...

قلت دعني أذهب للبيت وأتمعن في البحث... لا تقلق.. إن شاء الله يكون جاهزاً في الوقت الذي تريده...

قال لي أبو علي: هذا بحث إنجليزي...

قلت له: لا تقلق...

ذهبت للبيت وفتحت الكمبيوتر... فتحت برنامجًا جديدًا يعمل على تحويل المستندات إلى ملف كتابي «وورد».. مسحت الصفحة الأولى وحولتها للبرنامج... وإذا بي أراه يحولها إلى ملف وورد...

سارعت بالاتصال على مكتبة النور وقلت لأبو علي: قل لصاحب البحث أن يحضر في الساعة السادسة وسيكون البحث جاهزاً...

عملت على تحويل الصفحات بالبرنامج الجديد... وأتممت التعديلات التي طلبها صاحب البحث... وقبل الساعة السادسة كان البحث جاهزاً في مكتبة النور...

تعجب أبو علي مما شاهده.. وقال: هل عندك فانوس علاء الدين.. ما شاء الله عليك... أطلب منه المبلغ الذي تراه مناسباً... لا أعتقد أنه كان يتوقع أن تنتهي من البحث في هذه الفترة القياسية...

نعم لقد نجحت في هذه الوظيفة وتطورت مهاراتي الكتابية والتصميم باستخدام كورل درو Corel Draw «لم يكن برنامج الفوتوشوب يومها مشهوراً وكان مستخدموه قليلين» فكنت أصمم إعلانات وغيرها...

في أحد الأيام جاءني أحد الأصدقاء «الأستاذ عقيل آل ناس» وقال: أنا مع «السيد بدر السادة» لدينا مشروع بقالة، ما رأيك أن تعمل معنا بوظيفة محاسب؟

قلت له: ولكني أعمل على كتابة البحوث مع مكتبة النور.

قال عقيل: لا يهم ولا يوجد تعارض... يمكنك العمل في الفترة الصباحية في البقالة وفي العصر في كتابة البحوث...

فكرت في الموضوع.. وافقت على العمل معهما... فصرت أذهب للبقالة في الفترة الصباحية وكانت المبيعات جيدة، وكان الأهم هو استلام الأغذية كالحليب ومنتجاته والمخبوزات من الموزعين وترتيب البقالة...

كانت فترة العمل محطة حلوة تعلمت فيها مهارات كثيرة، وخلال هذه الفترة لم أتوقف عن البحث عن مقعد دراسي... حتى أني ذهبت للبحرين وقدمت في جامعة البحرين مع أحد الأصدقاء «مهدي أمان وأخي أبو جعفر» كانت رحلة مسلية خصوصاً أن صديقنا مهدي كان يعرف البحرين فأخذنا إلى «بوفية» وتناولنا فطوراً شعبياً، وصلنا الجامعة وهناك دفعت رسوم دخول الاختبار، وكانت هذه المرة الأولى التي أرى الانفتاح «الاجتماعي» حيث كانت قاعة الاختبار مختلطة بين الطلاب والطالبات وبعض الطالبات بدون حجاب فكان الأمر «جديد»... انتهيت من الاختبار... ولكن لم يكن لي نصيب أيضاً

ولم يداخلني اليأس... حتى جاءني المرحوم «عبدالله الراهب أبو محمد» وقال هل تذهب معنا للبحرين ولدي سيقدم أوراقه في «جامعة البحرين»

ذهبت معهم، وتم قبولي في تخصص نظم معلومات إدارية الفصل الأول «تفرغ جزئي» وتم تسجيل مادتين دراسيتين، ولكن عليي أن أسدد رسوم الدراسة «3000 ريال» وهنا توقفت عن إكمال بقية الإجراءات... قلت لـ أبي محمد سوف أفكر في الموضوع وإن كان لي نصيب سوف أحضر لإكمال بقية الإجراءات...

عدت من البحرين وقلت لعائلتي بتكاليف الدراسة «3000 ريال» في هذا الفصل وسوف أدرس مادتين وسيكون هناك «مشاوير، رايح جاي» إلى البحرين... فقال أبي: بلاش منها... هذه الدراسة مكلفة ولا نعلم عن مستقبلها...

أغلقت الموضوع وبقيت على العمل في البقالة وكتابة البحوث...

قلت: ما شاء الله عليك... عندك قوة أمل...

ابتسم عبدالله وقال: لم أنته بعد من القصة... استمع للجديد...

ذهبت للقصيم للتقديم في جامعة الملك سعود فرع القصيم... بحثت عن شباب يدرسون في تلك المنطقة... عرفت أن هناك شباباً من منطقة القديح.. لا أعرف كيف نسقت معهم... حيث استقبلوني في محطة النقل الجماعي وقاموا معي بالواجب من الاستضافة والتوجيه.. تقدمت للاختبار والمقابلة الشخصية...

عدت من القصيم وكلي أمل أن أحصل على القبول فقد كان الاختبار سهلا وكذلك المقابلة الشخصية... ولكن ظهرت النتيجة... ولم أجد اسمي ضمن المقبولين...

في أحد الأيام قال لي أحد الأقارب إن مندوبية تعليم البنات بالقطيف لديهم وظيفة «كاتب» يمكنك أن تقدم عليها بشهادة الثانوية... ذهبت مع عمي لمقر المندوبية وقابلنا الموظف المختص عن الوظيفة.. استقبلنا ورحب بنا ثم قال: هل يمكنك أن تكتب لنا هذا الخطاب...

سألته: أين أكتبه؟

قال: اجلس واستخدم هذا الكمبيوتر...

أخذت الخطاب... كتبته في أقل من خمس دقائق...

لم يصدق الموظف أني انتهيت من كتابة الخطاب بهذه السرعة...

فقلت له: هل ترغب في إعادة الكتابة...

نظر إلي...

قلت: سأكتبه أمامك...

كتبته...

قال لي الموظف: شاطر...

وذهبت معه لمقابلة المدير ومعنا الخطاب...

قال المدير: ما شاء الله ولكن عليك أن تحضر لنا صك حسن سيرة وسلوك..

قلت له: «ول» من وين؟!

للقصة بقية

كاتب وأخصائي تغذية- القطيف