صراع المجالس
قد يقف بذهنك الزّمان، ويتقلّص بكَ المكان وتضيقُ عليك الأرض بما رحبتْ فتذهبُ إلى حيثُ تأخذكَ رجلك إلى مكان متاح للأحباب، لا تُقفل القلوب فيه بمفتاح، تتلاشى فيه قيود الرسميّات، وجميع القوانين الاجتماعيّة وما أن تجلس لتحطّ عناء همومكَ بين صحبتك حتى ترى أحدَهم يزيد همّك هموما، ويعكر مزاجك ببضع كلمات تحاول بلعها لكنك لاتستطيع ذلك حتى لو بلعت أطنانا من المياه خلفها.
إنّ اللقاءات وجلسات السّمرِ والتّواصل مع الأصدقاء فسحةٌ زمنيّة لطوي الألم وتجديد المشاعر للأفضل لذلك لابد أن تخلو من الآراء السلبية، والأفكار المتسلّطة وتصبح منبرًا للتّوجيه والإرشاد وطرح الأفكار البنّاءة، يتحدّث الجميع دون أن يكون لأحد سلطة كاملة يُحرج فيها الآخرين، ويثيرُ السخريّة والاستهزاء بآراء الناس وسط المجلس.
أغلب أحاديث المجالس للترْفيه عن النّفس وإزاحة بعض الهموم، هي ليست مناقشة أكاديمية. فلاتجادل لإثبات أنّك على حق وغيرك مُجانب للصواب. فتخسر صديقًا للأبد، كن مستمعا جيدا، فالصمتُ يمنحكَ الوقار، ويكسبك الوقت للتعرف على عقول الآخرين لتصقل عقلك بحكمة شخص وتبتعد عن الجهل لحماقة آخر.
في صراع المجالس ترى أحدهم يتصدّر قلّة الذّوق وآخر يفردُ عضلاته مستمتعا بحديثه المُكتنز زهْوًا وفخرا، وثالث يتَبَخْتر بما يمتلك من مواهب مُتعددة.
ولكي تؤدي مجالس الأصدقاء مهمتها السّامية، لابد أن تتسم بمميزات عديدة أهمها:
1. ألّا تخلو من ذكر الله وذكر محمد ﷺ وأهل بيته قال رسول الله ﷺ: ”ما جلس قومٌ يذكرون اللهَ عزَّ وجلَّ إلا ناداهم منادٍ من السماءٍ: قومُوا مغفورًا لكم، قد بُدِّلَتْ سيئاتُكم حسناتٍ“
2. أن تتقلص فيها مساحة الفضول منعا للإحراج، ومراعاة ظروف الآخرين ومشاعرهم.
3. الابتعاد عن خصوصيات الناس وترك السؤال عن تفاصيل حياتهم.
4. مناسبة المجلس لمستوى الإنسان الفكري والاجتماعي والروحي.
ومادام المجلس لايناسب عمري ولا ثقافتي فلماذا الجلوس فيه؟
5. في مجلس الأصدقاء لاتعاتبْ، لاتجادلْ، لاتلتفتْ لأيّ إنسان يُصيبُ كرامتك، واجعلْ نفسك خادما أمينًا لنفسك ولمن يمدّ خيوط المحبة لك.
فإنّ عمرًا واحدًا مهما طال لايكفي إلا
للسعادة.
6. إذا وجدتَ نفسك قد وُضعْتَ في نقاشٍ عقيم لايسمن ولايغني من جوع عليك بتغيير مجرى الحديث ما استطعت إلى ذلك سبيلا وإذا فشلت في ذلك ليكن همّك الانصراف بشكل لبق لايأخذ شكل الهروب أو التخاذل العقلي.
7. يجب أن يعلم الجميع أن مجالس الأصدقاء إنّما وضعت للوفرة من كلّ شيء جميل، للسعادة، للتوازن النفسيّ وللشعور بالسّلام وليس عكس ذلك.
8. على مرتادي مجالس الصحبة الصادقة التّنبه لمشاعر الآخرين وعدم الخوض في أحاديث تُثير ذكريات مؤلمة في نفوسهم. لذلك كانت رِقَّة القَلْبِ تظهر بين الحروف والكلمات.
تقول إحدى الأمهات: كنت أتحدثُ بمشاعر الشوقِ واللهفة عن ابني الذي لم أره منذ سنتين لظروف دراسته في الخارج.
ولكنني توقفتُ فجأة، وأدرتُ الحديث نحو وجهة أخرى مختلفة تمامًا عندما أقبلتْ صديقتي التي فقدتْ ابنها في حادث سير مروّع.
إننا لو تأملنا العلاقات الإنسانية الناجحة سوف نلاحظ أن الهرم الثلاثي للنجاح فيها يتألف من: الحب، وحسن الإنصات، والعطاء. ذلك هو أكسير الحياة الناجحة فلا تستمر حياة ناجحة دون مُنصت يفهمك جيدا، ويقرأ نظرات عينيك ليعرف ما تفكر به.
إنّنا وللأسف الشديد نهمل مهارة حسن الاستماع في حياتنا مع أنها من أهم مهارات الاتصال القويّة التي تكشف لنا شخصية المتحدث، وترشدنا لأهم النقاط الدالة على كيفية التعامل معه. فالخطأ في فرض حديثنا وبسط عضلاتنا الكلامية وكأننا نقود العالم بالحديث الذي يعلو ويصل أحيانا للصراخ.