منارة مسجد الشيخ محمد: تحفة معمارية خذلها الزمن
نراك من بُعدٍ، منتصبةً عاليةً، مزهوةً بنور الشمس فيزداد بياضك على بياض، مثل كوكب دُرّيٍ يضيء سماء ديرتنا بالفرح والألق والبهجة. أشواقنا حَمَامات تحوم حواليك، محملة بالنذور ونبض القلوب. بصدق اليقين ترتسم الآمال، محققة كتمائم من ذهب. زجير البحر يصدح في الآفاق ليروي ما خبأته الأيام حول تحفة التحف.
تعتبر منارة مسجد الشيخ محمد أيقونة سنابس المعمارية الوحيدة، نظرًا لتميزها البنائي المتفرد. منارة شامخة يصل ارتفاعها إلى 22 مترًا، تتخللها شرفتان؛ واحدة فوق بابها بمسافة 3 أمتار على شكل مثمن، ومنها نزولًا لعمق القاعدة الأرضية بذات الشكل. ومن سطح الشرفة الأولى تتحول المنارة علواً إلى الشكل الأسطواني وصولًا لبداية طوق الشرفة الثانية. ومن فوق سطحها تنتصب قبة رشيقة التكوين طولها 130 سم، هي تاج المنارة، مرتكزة على ثمانية أعمدة يصل ارتفاعها إلى 140 سم، ملتحمة مع بعضها بأقواس صغيرة ومؤطرة بغواطس خفيفة.
تتموضع المنارة في باحة المسجد ناحية الشمال الشرقي، بقاعدة عرضها ثلاثة أمتار و 30 سم، سامقة بلونها الأبيض من الأسفل للأعلى باستثناء الشرفتين. تبرز الشرفة الأولى هوائياً من جذع المنارة بمسافة 1,30 م، وبارتفاع متر. وهي على شكل مثمن يسيجها إطار عرضه 15 سم، بارز ومدبب عند التقاء كل ضلعين. هي فواصل وما بينهما طوقان ونصف الطوق من حلقات دائرية ونصف الدائرة ذات الأحجام الصغيرة ترتكز على إطار بارز.
أما الشرفة العليا، فيؤطرها بروازان بارزان يلتفان عليها كاملة بشكل دائري، واحد في الأعلى والثاني في الأسفل. وتبرز الشرفة هوائياً بمقدار متر و 7 سم، ولا يوجد بها أية فواصل. جدارها مزين بأنصاف الدوائر بكامل محيطها، وهي أقواس مفرغة ومتراكبة على بعضها البعض، يزينها إطار بارز أسفل قاعدتها ملتصق بأفريز زخرفي هندسي. وكلتا الشرفتين مطليتان باللون الأزرق المخضر الفاتح. ويحيط وسط المنارة أفريزان زخرفيان على شكل طوق خطي ذو نقوش هندسية، وكل أفريز يقسم المسافة بين الشرفتين بالتساوي، فأسفر عن ثلاث تقطيعات مصمتة، باستثناء التقطيعة الأولى السفلى حيث يوجد بها أربع فتحات صغيرة بمستوى واحد نحو الجهات الأربعة، بهدف تهوية برج المنارة. ووضع في التقطيعة الثانية مكبر صوتين، واحد نحو الشرق والثاني نحو الغرب، وذلك بعد وصول الكهرباء الأهلية.
تكتسي جميع جدران المسجد داخلياً وخارجياً باللون الأبيض، بينما النوافذ بشكلها المستطيل مطلية باللون البني المحروق، والمسماة شعبياً ”بالدرايش“. مصنوعة من الخشب ومقسمة إلى نصفين، ذوات أربع ”سفك“ مثل الأبواب الصغيرة تتخللها قضبان حديدية ”أسياخ“. وفي أعلاها إطار ومربعات صغيرة ذات زجاج ملون. أضفت ”الدرايش“ حلة تزينية وأخرى نفعية، حيث أفسحت مجالًا لدخول الضوء الملون وتجديد الهواء، موزعة بشكل متتابع على امتداد جدران المسجد من الجهتين الشمالية والشرقية.
أما جدار الجهة الغربية، فينصفه المحراب المقوس وتجاوره يمينًا وشمالًا غواطس عميقة بمقدار 35 سم والتي يُطلق عليها ”روازن“، عمودية الشكل بنفس أحجام النوافذ. ويعلوها بمسافة 30 سم روازن أخرى مربعة وهي على مدار محيط الجدران. يسري اللون البني على كامل الأبواب الداخلية التي في صدر الفناء وكذلك الباب الخارجي ”الدروازة“.
شُيدت شرفتا المنارة بالأسمنت المسلح المطعم بالحديد، أما كامل المنارة مبنية بحجارة البحر والأسمنت. وفي جوفها درج حلزوني يصل إلى الشرفة العليا، وما بينهما أربع فتحات للتهوية بعد الشرفة الأولى بمقدار 3 أمتار.
يقابل المنارة من الجهة الجنوبية دورات مياه وحجرتين، واحدة لحفظ المصاحف ونسخ الأدعية والمسابيح والترب، وأخرى مستودع. ولا تلتصق جدران المسجد بأي منزل، حيث تحيط به دروب صغيرة.
القاصد إلى سنابس من جميع الجهات الأربعة يرى المنارة ترحب به من مسافة بعيدة، لا يعلوها شيء لا المنازل المجاورة ولا النخيل المتناثرة، سواء نخل الضامن ”مطار الحمير“ أو نخيل الدالية شمالًا. هي الشامخة لوحدها كأنها برج فنار، بل علامة للقادمين من أعماق البحر، حيث زُينت ”بلمبة“ في أعلاها زمن مواتير الكهرباء الأهلية. ضوء يرشد التائهين في ”عتمات الليالي“ والمتلهفين لمحطة الوصول.
يتلون الحنين بالشوق والأنين وبتجليات أدعية المؤمنين لمسجد عامر جامع لأكبر قدر من المصلين. خشوع وتراتيل لإحياء ليالي القدر والمناسبات الدينية وإقامة الفواتح وصلاة الأعياد وكسوف الشمس وخسوف القمر. وفيما بعد أُقيمت صلاة الجمعة، مشاهد خبرتها العيون لأبناء الحاضر وآبائهم وبعض الجدود على مدى 70 عامًا ونيف.
لكن ثمة صور موغلة في القدم خارج نسق العبادات، حيث كان المسجد ”ملفى الأجاويد“ في أوقات انهمار المطر الشديد، مخرب منازل العِشَش، حيث تفر عوائل جيران المسجد ذو البناء العربي وأعمدته المنتصبة علواً لتحتمي تحت سقفه المزدان ”بالباسچيل والچندل“ عن عصف الريح والبروق وهول الغيث الذي لا يرحم الضعفاء. في حيزه تتكوم النسوة على بعضهن البعض مع أطفالهن ناحية جنوب المسجد، أما الناحية الشمالية، فيجلس الرجال بين جالس ومستلق وغاف. لكن أحاديث البحر هي السلوى لهم من كل كرب، مواويل وأبوذيات وتوسلات هي خرائط جغرافية الأمكنة وصهيل الأزمنة في حلهم وترحالهم. شدو الكادحين يُسمع بين ملوحة البحر وبين هبوب الهجير، بحارة تناقلوا الحكايا على رملة السيف، وتمايلت رؤوسهم نهمات على سطح ”الفنه“. مروياتهم تاهت في بحر غبة، ومع بروق نجم سهيل أفصح الصبح عن شذرات براقة، هي إضاءات قادمات من عتمات ليالي ”الگمبار“ ستضيء بعضاً من ذكرى مسجد أُسس قبل 250 سنة؟ وخير معين لسرد بعضاً من تفاصيل أحد بيوت الله، رحت أنبش ذاكرة الحاج عبدالله علي العقيلي تحت ظلال مزرعته ”مخيزيمة“ وسط نخيل ”فريق الأطرش“، حيث قال لي والتنهدات يرسلها مع حفيف شجرة البمبر التي يتساقط علينا ثمرها بين وصف ووصف وبين سرد واستفسار. ولأمانة ما قال، أستعرض كلامه حرفياً كشهادة حية واعتزاز بطلاوة حديثه وجرس موسيقى الكلمات الشعبية النابضة بحياة الأولين. يقول: «سمعنا من رجل شيبة اسمه محمد بن عبدالله الزريقي، كنت أوصل له ”گت“ إلى بيتهم في السنابس من قبل 50 سنة، يقول: ما كان هنا مسجد، ولا هو من المساجد ”الگدامى“ مره. ديك السنين يجوا ناس من البحرين بيروحوا الحج، جماعة راهية نزلوا من ”اللنج“، فيهم واحد اسمه محمد امبارك، جوا وجلسوا على فراش بيت إسماعيل - في ضيافتهم - إلا كل مرض امبارك، هو جاي بيروح وياهم الحج تابع حملة دار. حس روحه عجزان، قال ليهم: أنا ما بتمكن أروح وياكم الحج، أنا تعبان، بس هذي حجتي، يقول إلى بيت إسماعيل: شوفوا محل وابنوا فيه مسجد بحجتي، محل يوالم إلى مسجد. وهذا المكان زمن لول ”بريه“، بعدها الدنيا لا سيايير ولا ”گواري“. تالي بيت إسماعيل بنوا المسجد وسموه مسجد الشيخ محمد، لكن ما هو شيخ عليه أعمامه، هو رجال فقير لملم له قيمة حجة، ويوم بنوه كتبوا عليه مسجد الشيخ محمد امبارك».
سألته مستفسرًا: ”من متى هذه السالفة يا أبو حسن؟“
أجاب من وحي مشاهدته والسماع من كبار السن: ”هذا اللي لحقنا عليه حجي علي بن أحمد آل اسماعيل، وهذي السالفة على زمن جده، هذا أبوه. أنا ما شفته ولا جده إسماعيل، ما شفناهم. وعلي بن أحمد إسماعيل ما شفناه إلا وهو شيبة. ظل يأذن فيه مدة طويلة، ما توفى إلا هالسنين، وقبله أبوه حجي أحمد كان يأذن فيه بعد. ظلوا الناس يجيبوا للمسجد نذور، نذور. وكثرت النذورات، وبيت بن حبيب ليهم كلمة، استلموه، وصار المسجد نذوري. زمن لول بربية أو أنات، وتالي بگروش أو بريال. إذا عندك شيء ضايع ولا مريض ولا طالب حاجة، تنذر باللي تگدر عليه. وظل يستلم حجي علي بن عبدالله الحبيب وتالي أولاده من بعده. وظلوا يبنوا فيه أولاده. هذا اللي سمعنا عنه، بس ما هو مسجد قديم، مثل مسجد عزيز، ومسجد الصادق ومسجد عيسى بن مريم، هذولا أقدم منه.“
سألته مستفسرًا بين تيه الأزمنة: ”أبو حسن، هالكلام حولي من كم سنة؟“
أجاب وهو يرمش بعينيه وبحسبة سريعة في توالي الأجيال: ”فوق 200 سنة وزيادة بعد، معلوم 250 سنة. يعني في قوة جد علي بن أحمد إسماعيل. وبنوه على طراز البناء القديم، جص وصيران، وفيه زخرفة، زي بنيان بيوت الديرة في تاروت. فيه روازن، ورواشن عبارة هوايات.“
خلال عودة العصافير إلى أعشاشها وتسابيحهم الضاجة بالمزرعة، سألته: ”أبو حسن، أنت ما شفت بنيان المسجد القديم؟“
أجاب: ”لا، ما شفت البناية اللي هدموها الأولية. يقولوا صغيرة. شفت هذا اللي تالي جددوه، وصبغوه بالأبيض، ما لحقت على القديم بس سمعت عنه.“
واستطرد: ”يقولوا لول، يوم هم ضعفاء أهل السنابس، وبيوتهم ما جود مطر. إذا طاح المطر يلتجوا فيه، النسوان من صوب والرجال من صوب. وإله خليات أدبات - دورات مياه عامة - وإله بعد جفر - بئر -، ينزفوا منه ماي، قبل طلاع العيون.“
واسترسل في ذكر مشهد لرجل أتى صوب الحريم المتكومات «بشيلاتهن» في المسجد واقترب من إحدى الواقفات وقال لها: ”خذي هذا الكيس.“ فأخذته دون النبس بأي كلمة. وحين توقفت الأمطار وعادت العوائل إلى منازلها التي تسبح في برك من الماء، بعد أيام قال الرجل لزوجته: ”أين الكيس الذي أعطيتك إياه داخل المسجد؟“
قالت له باستغراب: ”أي كيس؟ لم تعطيني أي شيء!“
بُهت الرجل بعد معاودة السؤال عليها ورسم الموقف. دار الجدل واحتدم، هو يجزم بأنه أعطاها إياه وهي تحلف بأغلظ الإيمان بأنها لم تستلم أي شيء. قال لها: ”جيت صوبكم وشفتك واقفة وأعطيتك الكيس يعني ماهو أنت؟“
قامت الزوجة بإشاعة الخبر وأشيع بين نسوة الحي. حين حل الظلام في الطرقات، طرق باب بيت الرجل الذي يئس من عودة ما فقده. أتت المرأة ومعها الكيس واعتذرت لأهل الدار، موضحة بأن الأمر ظنته مساعدة لحالها الضعيف. أعطت الكيس الرجل يدا بيد لتطمئن. أخذه وهو الموسوم بـ «خريطة»، وهو عبارة عن قطعة قماش طويلة أشبه بكم ثوب الرجل، مغلق من جهة ويعقد بحبل من الجهة الثانية لوضع الأشياء الثمينة. كان الكيس يحوي كل ما يملك الرجل من مال. واكراما لأمانتها أعطاها جزءًا منه. وللأمانة أيضًا طلب مني الحاج عبدالله العقيلي بعدم ذكر الأسماء.
بفيض من الشوق سألته متلهفًا عن تغيرات بناء المسجد: ”زين، وهدموا بنيانه الأولي وتالي متى بنوه؟“
أجاب: ”هدموه وبنوه من جديد بس ما أدري كم المدة بين التهديم والبنيان. ويوم بنوه ما سووا فيه منارة إلا تالي. لحقت عليه أنا ما فيه منارة، المنارة أمس وأول أمس.“
أبو حسن، هذا المسجد المعروف ببنايته البيضاء من متى فهمت إله وعمرك كم؟
أجاب وهو واقف يتوكأ على عصاته: ”إيه.. هذا بنيان أسميت، كل بين لأسميت في البلد. فهمت للجديد وأنا صغير، يمكن صار له فوق سبعين سنة.“ وبينما نحن نترك المكان المزدان خضرة وثمارًا وشيئًا من رطوبة المساء، استوضحت عن عدد السنين التي مرت على بناء المنارة؟
أجاب: ”المنارة تالي سووها، يمكن أخذت لها مقدار 59 سنة. شوفها ترى هي منفصلة عن بنيان المسجد، في القرنة، بس حايشة حوشه. هذا الحوش من قديم وداخل مسقف زي مسجد لخضر، وبنيانه يأخذ منه، بس مسجد الشيخ محمد ترى نذوري يوجب.“
في اليوم التالي، أخبرني الحاج عبدالله علي العقيلي عن أمرين. الأول متعلق بفترة صباه، حيث كان يأكل الربيان بشهية مفتوحة، وفجأة كره أكله بسبب تشابهه مع ربيانة جذوع النخيل المتلونة بين البني والرمادي، قبيحة المنظر حسب رؤيته لها ذات يوم بالصدفة، فارتعش جسمه ولاذ بالفرار. أيضًا، نفر من أكل جلد السمك ولم يستسغ طعمه، لكن بعد مدة من الزمن، عاد ليقبل على أكل الربيان بنهم، وكذلك جلد الأسماك. فقد زال عنه ذاك التوجس والنفور، الأمر الذي حيره فاستعجب وسأل والدته على وجبة الغداء: ”أماه، أنا مستغرب من نفسي، كنت ما أشتهي الربيان وما أقدر حتى على أكل جلد السمك، والحين ما أخالف عنهم، أحب أكلهم. ما أدري ويش اللي غير حالي؟“ فقالت له والدته والبسمة تعلو محياها: ”الحمد لله.. ترى إني نذرت إلى مسجد شيخ محمد!“
الأمر الثاني: عن مواقع الحجر، بأن مسجد شيخ محمد بُني من حجارة بحر شمال جزيرة تاروت غرب الزور، حيث مقالع الحصى الصلبة، أما بحر السنابس فلا يوجد فيه إلا حجر ”فروش“، وهي وصلات جاهزة توضع كجسر فوق الروازن ولا تصلح لبناء «النكايل» ولا الجدران، وتوضيح وتأكيد من قبل ابنه حسن الخبير بجغرافية البحر. أنفاس متعاضدة تتوق لبناء عربي وفق مصطلح ذاك الزمن وحسب التقديرات، عند منتصف الخمسينات هُدم البناء القديم وشرع في تشييد البناء الجديد على يد أستاذ البناء من سنابس السيد عيسى السيد علي الهاشم، وبمعاونة ابنه سيد سعيد وحشد من عمال البلد، تحفظ الذاكرة بعضًا منهم: حسن اليعقوب، وأبو عبدالرسول اليوسف والد المهندس سلمان، وشخص من عائلة خلفان، وعلي اليعقوب، وعباس المطوع المكنى بأبي أحمد وآخرين.
وفي خضم العمل وحماس الأستاذ والعمال، وتحت إشراف ومتابعة عائلتي القروص وآل حبيب، امتدت مساحة المسجد عن ذي قبل فأصبحت أبعاده: 26,30 م طولًا × 21,45 م عرضًا. وبعد شهور من العمل المتواصل، اكتمل مشروع البناء الجديد بتوسعة مضاعفة وارتفاع أعلى، وعُد المسجد بأنه أكبر مسجد في نطاق الجزيرة وربما تقارب مساحته مع مسجد الخضر. إنجاز فخر والوجوه مستبشرة، نذورات تتوالى، وعين الطموح بالآمال تكبر، هي عين بصيرة ورغبة ملحة من لدن الطواش الحاج علي بن عبدالله الحبيب «الوكيل الشرعي» لمسجد الشيخ محمد، بإضافة وحدة شامخة للبناء القائم، باستجلاب أستاذ معماري شهير من البحرين يدعى الحاج أحمد بن سلمان البناء، المشهود له بهندسة وبناء مساجد في سنابس البحرين بطراز معماري مميز، من ضمنها إنجازه لمأتم أحمد بن علي بن خميس ومسجد الجوادين ذو المنارة المتناسقة طولًا وحجمًا والجاذبة شكلًا، حيث تبصرها «المحامل» القادمة من مسافة بعيدة قبل أن تصل للبندر.
دار كلام بين البحارة و«الطواويش والنواخذة»، للوصول لعين مكان المنارة. تتوق العيون وتتلهف الأنفس لرؤية جمال مسجد الجوادين، آهات الإعجاب تتثنى تقديرًا لنموذجين معماريين يدلان على عبقرية الأستاذ «البناء»، الطامح لبناء المنارات والتشكيلات البنائية الجمالية في ربوع جزيرة أوال. ثمة تواصل برغبة وإقناع من المحسنين وعلى رأسهم الحاج علي بن عبدالله الحبيب: لماذا لا يكون لك، أيها الأستاذ المبدع، ذكرى معمارية خارج الديار، لسنابس أخرى، سنابس جزيرة تاروت؟ توق برق في الآفاق وعبرت النوايا الضافيات من الضفاف إلى الضفاف، تهاليل فرح من لدن وجوه الطيبة بحب وترحاب، نسائم جود من أهل الشمال.
أتى الفنان «البناء» وشمر عن ساعديه بوضع الخطط اللازمة والتصورات المعمارية، بكيفية تحويل الحلم إلى حقيقة مرئية. توكل على الله بهبة جماعية، حيث بُوشر العمل بحفر عميق لبناء الأساس مطلع سنة 1386 هجرية الموافق 1966 ميلادية، التفاف من الأهالي منقطع النظير، بروح عالية اشتغالًا ومالًا وبذلًا وتعاونًا، والبرج يرتفع شيئًا فشيئًا، الأيدي بالدعوات تتعالى والجهود تتضافر. شهور مرت حتى اكتمل الصرح المعماري، مطليًا باللون الأبيض، شامخًا يعانق السماء الزرقاء، يأسر الناظرين. تتوالى آيات الإعجاب بالثناء والحبور، وبتناثر مزيد من النذور، والأفئدة تهاليل فرح بالحمد والشكر لأجمل وأبهى منارة في ربوع الجزيرة.
تتداعى الذكرى برفقة الأمهات والجارات ورنين أصواتهن زفة عروس، والخطو سفرًا من تاروت إلى حيث يضحك البحر شرقًا على ضفاف السنابس. صوت الحاجيات يتبارى بمنطق موحد: ”يابناتي، يا أولادي: شوفوا شوفوا ترى قربنا، بانت لينا منارة مسجد الشيخ محمد - وينهيه؟ - ماتشوفها داكيه.. داكيه.. تلالي وتبورگ.. - إيه إيه شفناها - الله.. الله.. من حلاوة بياضها چنه گمر يضوي من بعيد“. نسوة وفتيات يرفعن التحايا بجوار المنارة، أيام «لشراك الغالي» - بين نهاية شهر جمادى الثاني ومطلع رجب، هن قادمات من مسجد الخضر وعيناهن مصوبات عاليًا لقبة المنارة، يتبركن عند مدخل بابها وبالعتبات، وحين تعبت رقابهن، رفعن الصيحات، ”سووا صلوات“، يفوح منهن عطر الرازقي وكفوفهن تنثر ماء الورد والحلويات، وبأطراف أصابعهن يمسحن بالحنا على جدران روازن المسجد الغربية وفي قلب المحراب. فقيرتان تشاركن تبرعًا «بمشكاب شموع» ودموعهن فيض محبة. عند غروب الشمس غادرن النسوة مع لفيف من الصبايا والصبيان بعد أن تلون ”حلال المشاكل“ ومواليد الأئمة الأطهار، وتركن ما تيسر لهن من نذور عند «قيوم» المسجد. تأخرت امرأة عن الركب وهي تتوسل بهمس شفيف عند المحراب: ”يارب يارب طالبتنك طلبة، أبغى أفرح بعرس بناتي، يارب يسر أمرهم واستّر عليهن“. دعاء من القلب وصل إلى عنان السماء مع وقع مناداة صلاة المغرب، وبعد عام ونيف زفة الأبكار واحدة تلو الأخرى. من فرحتها الكبرى تبرعت ”بصوغة“ عرسها لمسجد الشيخ محمد.
لزمن مضى كانت مساجدنا خالية من المنارات وحتى القباب، وذلك حسب ما هو سائد عند بعض مراجع الدين، بأنه لا يجوز أن يعلو البناء على المسجد سوى المئذنة المتقاربة في ارتفاعها مع سطح المسجد، تبنى من أجل أن يصعد في داخلها المؤذن لينادي على الناس بدخول وقت الصلاة.
تجوس الذاكرة في الديار فتعثر على مئذنة مربعة الشكل تنتصب عند مدخل مسجد الشيخ رضي بحي الديرة بتاروت. والمعمرون يستذكرون أثرًا وحيدًا لمنارة كانت شامخة بحي القلعة بالقطيف والذي يشار للمسجد باسمها «مسجد أبو منارة». يقال بأن المسجد بني منذ قرون وجدد بأمر الوالي التركي، وحين خرج الغازي مدحورًا ظلت المنارة ردحًا من الزمن مائلة بعض الشيء بارتفاع يتجاوز 30 مترًا، والصاعد في أعلاها يرى القطيف بتفاصيلها ويبصر حتى جزيرة تاروت. مسجد بني في القرن الثامن الهجري حسب المرويات، وبعد حين أصبح آيلًا للسقوط ومهجورًا لحقبة من الزمن، وقد أزيلت المنارة وهدم المسجد الطيني نهاية الستينات وتحول المكان لمسجد بمواصفات البناء الحديث وتم توسعته في السنوات الأخيرة بحيز مضاعف أكبر مساحة وحجمًا من ذي قبل.
حين أعيد بناء مسجد الشيخ محمد بسنابس على طراز البناء العربي التقليدي المستحدث، روعي جانب معماري بالنسبة للمصلين حيث يكون الجزء الأكبر مغلقًا ومسقوفًا، تتخلله النوافذ وعدة أبواب والجزء الأصغر «الحوش» مفتوح إلا من سور المسجد من الجهة الشرقية. هذا التقسيم مرتبط بفصلي الصيف والشتاء، وأيضًا هذا النمط المعماري كان ساريًا على كل مساجدنا القديمة صغيرها وكبيرها.
تم بناء مسجد الشيخ محمد بشكله الجديد من حجارة البحر والإسمنت، وبعد مرور 15 سنة تقريبًا انتصبت فيه المنارة وضاءة بلونها الناصع البياض في أحد زوايا الفناء الخارجي لتعطيه رمزية دينية ضافية تملأ العيون حيث النذور علائق حب لما تشتهي الأنفس.
أحد الباحثين أشار بأننا لا نملك ثقافة معمارية في بناء المساجد. هذا التوصيف ليس دقيقًا أبدًا. من يتذكر مسجد الخان ومسجد برودة والراجحية الذي يتوسط القلعة في القطيف يندهش من جماليات الأقواس والمقرنصات الزخرفية، سواء في تشكيلة المحراب أو على امتداد الجدران وكذا الروازن. والحال ينطبق على المآتم القديمة مثل حسينية بن جمعة وآل شلي في حي الديرة بتاروت ومسجد الجوال «الجواد» بفريق الجوال قبل نشوء فريق الأطرش، ومسجد الشيخ علاء بالخارجية ومسجد الشيخ علي والشيخ رضي بالديرة ومسجد حمام تاروت ومسجد الصادق وعزيز وعيسى بن مريم بسنابس، وكذا بناء مسجد الخضر ببنائه القديم جدًا، وقد جدد زمن الستينات الميلادية ربما بالتزامن مع بناء مسجد الشيخ محمد. الفرق بين الاثنين فقط في بناء المنارة، أما هندسة التقسيم متشابهة إلى حد كبير وكذا التلوين، حيث طلاء الجدران بالأبيض لكليهما باختلاف لون النوافذ والأبواب؛ واحد باللون الأزرق المخضر والثاني باللون البني.
وهناك فرق في هيكلية المكان: مسجد الخضر معزول عن الأهالي وسط غابة من النخيل يتمدد على تلة أثرية، بخلاف مسجد الشيخ محمد، بني على أرض منبسطة وعلى بعد بضعة أمتار من شاطئ البحر ومحاط بالمنازل والنخيل وتقع خارج محرابه مقبرة خاصة بالأطفال يفصلهما شارع ضيق.
كلا المسجدين «مسجد شيخ محمد والخضر» من أكثر المساجد في جزيرة تاروت التي ينذر إليهما المؤمنون والمؤمنات لتحقيق أمانيهم. يقال: ”إذا نذرت لمسجد شيخ محمد أو مسجد الخضر كل واحد يوجب“. الأول بني باسم رجل صالح من البحرين محمد المبارك وتقديرًا لتبرعه وبحكم عمره وجلال قدره، لقبوه بالشيخ، والثاني سمي تيمنا بالخضر . تحية وسلام على كل من بنى المساجد القديمة التي تمتلك تنويعات معمارية أصيلة تتسم بالجمال والذوق الرفيع.
تلك حكاية مسجد الشيخ محمد الذي أسس بحسن النوايا، والذي استدعى أثناء السرد صروحًا عبادية أخرى كشواهد على تحفته المعمارية التي ظننا بأن الزمان سوف يبقيها حية لأجيال وأجيال لتروي فصول من مراحل تشييدها، وتبيان جدل دار بين المتمسكين بالرؤية الأحادية بعدم جواز بناء المنارات! وبين القيمين على مسجد يجاور النخل والبحر، مؤمنون لم يلتفتوا للقيل والقال، ديدنهم صدق العمل متجسدًا على أرض الواقع، وعلى قدر عزمهم شيدوا منارة مسجد الشيخ محمد منذ عام 1966 م. ظلت شامخة في سماء سنابس لتصبح أيقونة المكان ولتكون فيما بعد مفتاح خير لبناء المنارات في كل ربوع مساجد الجزيرة التي كانت قبلها خالية تمامًا من كل منارة. نعم وبعد سنين من تألقها، تم بناء منارة تلو الأخرى بفضل من الله وجاذبية منارة مسجد الشيخ محمد، المحفزة لمحاكاتها بأنماط معمارية مختلفة، نصبت منارات ذات أشكال وأحجام، لتصبح كل منارة دليلًا لكل مسجد بل علامته البارزة للقريب والغريب.
أنفاس المغرمين بالتحفة المعمارية يزفرون الآهات تلو الآهات، لأن الذاهبين للسنابس اليوم لن يروا أي أثر للمنارة! ففي يوم السبت 29 يونيو 2024 الموافق 21 ذو الحجة لعام 1445 بدأ هدمها بعد مرور 60 عامًا على تشييدها. هدمت منارة الشيخ محمد بحجة تصدعها! وعلى أثر ذلك تصدع جزء من ذاكرة المكان، منارة خذلها الزمن ولم تجار عمر المنارات العتيدة في ربوع العالم الإسلامي التي مرت عليها قرون. منارة لم تكمل حتى قرن من الزمان!
وآه يا زمان ماذا فعلت بتحفة التحف؟ نجر الونات ونلوذ بالصور ونستجلب الأحاديث الخواليا. سيعاد بناؤها من جديد لكن ضمن أي رؤية، وأي شكل، وأي طراز؟
في الوقت الحاضر، قليل جدًا من يملك ثقافة المعمار المحلي الذي يمثل هوية المكان، لكن مسجد أبو عزيز بجوار قصر قلعة تاروت خير نموذج لإعادة إحياء التراث المعماري القطيفي الآسر للقلب والمريح للنفس، والذي شيده الوجيه عبدالله آل نوح على نفقته الخاصة والمولع بحب التراث بجميع أشكاله.
كلٌّ لديه رغبة في التبرع لدعم بناء المساجد ودور العبادة من منطلق ديني وعقائدي واجتماعي، لكن قليلون هم من يملكون الذائقة التراثية التي تحمل بصمات الأجداد وأصالة الماضي التليد. هل ستُعاد منارة شيخ محمد بنفس طرازها القديم وإعادة ملمس جدارها العتيق دون إضافة مواد دخيلة مثل الرخام والسراميك، مع إبراز نقوشها الزخرفية المعهودة؟ لأنها بحق كانت تحفة معمارية متفردة على جميع مساجد المنطقة، بل أيقونة أثرية اختصت بها سنابس دون غيرها ولا يوجد منارة تشبهها. أتمنى أن تُشيَّد كما كانت بالأمس، صورة طبق الأصل، لعلَّ الحنين يبقى متقداً في الحنايا، بوصل مع ذاكرة من شيدوها ومن صعدوا على متنها ينادون عالياً: ”الله أكبر.. الله أكبر.“
تحية وشكر للإخوة الذين زودوني بالصور القديمة الخاصة بمسجد الشيخ محمد:
1- الأستاذ منصور قنمبر
2- سعيد تقي آل طلاق
3- جابر عبدالله.
4- جمال العبداللطيف.
والشكر موصول للأخوة الكرام الذين تواصلت معهم حول تأكيد اسم أو استفسار عن شخصية أو البحث عن معلومة، وهم:
1- الأستاذ غريب آل سماعيل
2- الأستاذ حسن المبارك «أبو أحمد»
3- الأستاذ علوي الخباز «أبو هشام»
4- الأستاذ علي رضي أبريه «أبو جلال»
5- الحاج علي محمد عليوات «أبو عبدالخالق»
6- أمير محمد عليوات «أبو حسين»
7- وقيوم مسجد الشيخ محمد حالياً الحاج علي محمد المعاتيق.
هوامش للذكرى:
تم التأكد من مروية الحاج عبدالله علي العقيلي من قبل الأستاذ علي رضي آل بريه «أبو جلال»، بعد أن تلوت عليه تفاصيل الحكاية بأنه سمعها من عمته أم زوجته والمعروفة بأم مبارك، وأضاف بأن اسم الشخص المذكور، وهو الحاج علي بن أحمد إسماعيل، يكون جده من جهة أمه والذي بلغ من العمر حوالي 104 سنوات. وأضاف بأن الرجل المتبرع لبناء المسجد والذي سمي باسمه الشيخ محمد المبارك يكون جد زوجته أخت أبو مبارك، وهو الحاج أحمد المبارك، أطال الله في عمره. وعائلة المبارك من العوائل العريقة في سنابس، وبعضها ارتحل إلى البحرين «سنين البطاقة» - وقت الحرب العالمية الثانية - ومنذ ذلك الوقت إلى اليوم لم يزل التواصل قائماً بين العائلتين برغم تعاقب الأجيال وتوالي السنين. ثمة تفاصيل تفيض بجوانب عديدة، وما تيسر هو لب الحكاية وليس كل فصولها. ومن إعجاب كاتب السطور بمسجد الشيخ محمد، دونه رسماً عبر لوحة زيتية سنة 1989 م، وكذلك مسجد الخضر بشكلهما القديم. مسجلة اللوحة الأولى إعجاب الأحبة لردح من الزمن، لكنهم صُدموا الآن بخسران معلم معماري أصبح أثراً بعد عين، حيث علق الفنان حسن أبو حسين على الفيديو المنتشر الذي يبين لحظات البدء بإزالة منارة مسجد الشيخ محمد قائلاً: ”منظر هدمها يعور القلب، تمنيت ما هدموها!“ وانتقل هذا الإحساس العميق عبر مرثية للأخ الكاتب حسن دعبل عبر نص أدبي يتقفى أثر المنارة ومكانتها في نفوس من عرفوها والتصقوا بحميميتها عن قرب، ودعها بكلمات مؤثرة وكأنه يودع عزيزاً لن يعود!
والمتيَّمون بآثارها التقطوا بعضاً من حجارتها البحرية للاحتفاظ بها كذكرى، مثل عاشقي التراث سعيد تقي آل طلاق وأبو ناصر شطي. نتمنى أن لا نلوذ باسترجاع أماكن عزيزة على القلب عبر الحرف واللون وقطعة حجر فحسب، بل نسعى لإبقائها محسوسة تدركها العيون عن كثب وتتجلى فيها الحواس وتهيم فيها الأرواح كأنها تعيش أبداً.