موازنة
فجأة رفَّ في ذهني أن أوازن بين العراق ومصر في بدء الحضارة البشرية، وبينهما الآن. وكان اليقين بتطور التاريخ إلى الأمام يتوهج في رؤيتي وأنا أبدأ هذه الموازنة. فالمفروض، بناء على هذا اليقين الذي تؤكده صيرورة الحياة المعرفية أن يكون كل من العراق ومصر أكثر تقدما وازدهارا الآن، منهما قبل آلاف السنين. «غير أن اليقين أضحى مريضا / مرضا باطنا شديد الخفاء» كما يقول ابن الرومي.
السومريون قبل «5000ق. م» قدموا للحضارة البشرية: الكتابة، والعجلة، والمحراث، وتقسيم محيط الدائرة إلى 365درجة، وتقسيم السنةإلى365يوما، وبنوا المعابد، وأسسوا نظم الحكم والإدارة. هذا ما أثبته الباحث القدير فراس السواح في كتابه لغز عشتار ص «32» وقد قرأت في أحد المواقع نقلا عن كتاب «التاريخ يبدأ في سومر» أن السومريين قدموا «39» اختراعا. أما مصر القديمة فكلنا شاهدنا الآثار المذهلة التي قاموا بها. ويكفي، شاهدا على نضج الوعي آنذاك، قيام أول ديانة توحيدية في التاريخ البشري إذ «يقوم معتقد أخناتون «1369 1353ق. م» على الإيمان بإله واحد للبشرية جمعاء، وهو طاقة صافية، لا تتخذ شكلا، ولكنها تتبدى في عالم الظواهر بقرص الشمس» السواح في كتابه دين الإنسان ص «93» وهل يمكن نسيان شريعة حمورابي، وهي أول قانون بشري مكتوب، محتويا على «282» مادة، ويعود لها فضل البداية، على ما فيها من قصور البدايات. وكذلك لا يمكن أن ينسى أي مثقف أن الثقافة العربية بنيت، وازدهرت في العراق، بكل حقولها.
كيف يبدو العراق الآن؟ حين تريد الإجابة على هذا السؤال، سأجعل طريقك قصيرا، أريد منك أن تقضي من وقتك عشر دقائق «فقط لا غير» تنظر فيها إلى الفضائية العراقية «سومر» لتبصر بأم عينيك وعمة سمعك، وخالة يديك، كيف يتسابق النجوم، إلى هاوية الخيانة والرشوة والسرقة، تحت الشمس الساطعة. حينها تتذكر ما قاله السياب: «إني لأعجب كيف يمكن أن يخون الخائنون / أيخون إنسان بلاده / إن خان معنى أن يكون / فكيف يمكن أن يكون؟!» لا تعجب يا سياب، فالنجوم أخذت ما قاله الجواهري ساخرا «ما تشاؤون فاصنعوا / فرصة لا تضيع» أخذته على محمل الجد.
أما المحروسة، فكنا، حين نجلس على شاطئ النيل، تغيب عيوننا في رقص أمواجه، ونصغي بنشوة إلى عبد الوهاب، وهو يشدو: «يا نيل يا ساحر الغيوب... أأغصن تلك أم صبايا / شربن من خمرة الأصيل؟» ولا أعرف الآن هل بقي النيل مكانه أم رحل، كما رحل السد العالي؟