آخر تحديث: 31 / 10 / 2024م - 11:58 م

العجائبية والإدهاش في نصوص البطران

آلاء الطائي *

لتحديد مفهوم الإدهاش العجائبي ينبغي أن نعرض تعاريف لدارسين وأدباء ومنهم الفيلسوف الروسي «فلاديمير سولو فيون» حيث يقول: «في العجائبي الحق يحتفظ الإنسان دائماً بالإمكان الخارجي والصوري لتفسير بسيط للظواهر ولكن هذا التفسير في نفس الوقت محروم من الاحتمال الباطني»، وبهذا يتأكد وجود نوعين من التفسير إزاء ظاهرة غريبة؛ تفسير طبيعي: يخضع لقوانين الواقع المعُاش، وتفسير فوق الطبيعي يخرج من المألوف، أما إذا نشأ تردد بين الاثنين فتحقق في مواجهة العجائبي ويتفق مع هذا الرأي والمتعلق بوجود تفسيرين ظاهرة أو حادثة غير عادية المؤلف الإنجليزي «مونتاك رودس جيمس» إذ يقول: «أحياناً يكون من الضروري توفير مخرج لتفسير طبيعي، لكن عليُ أن أضيف: فليكن هذا المخرج ضيقاً بما فيه الكفاية حتى يصبح على المرء استعماله»، وتعد الشخصية العجائبية من العناصر الأساسية لتشكيل الخطاب السردي إذ على وجودها يبنى نظام الأحداث ممتداً في فضاء زمكاني، وقد ركزت الرواية التقليدية على «بناء الشخصية والتعظيم من شأنها والتعمق في رسم ملامحه تجانساً مع الرغبة في إيهام المتلقي بواقعية تلك الشخصية ومحاكاتها لصورتها النظيرة في الحياة» فهي على حد تعبير «رولان بارت» «نتاج عمل تأليفي» وبهذا كان يقصد «أن هويتها موزعة في النص عبر الأوصاف والخصائص التي تستند إلى اسم علم يتكرر ظهوره في الحكي».

إلا أن الشخصية التي تناولها الناقد تودوروف في الفانتاستك تمتلك «قدرة غير اعتيادية تفوق القدرة البشرية وتتحدى مفاهيمنا النسبية عن الزمان والمكان والطاقة» إذ إنها «في الأدب العجائبي معقدة تعقيداً كبيراً لأنها تجمع بين مختلف الكائنات، فقد تكون عبارة عن بشر أو لا، وقد تكون عبارة عن حي أو لا، ذات وجود حقيقي فوق الطبيعي أو مجرد استفهامات، وتحقق التنوع عن طريق التحول والاتساخ، وتستطيع أن تكون نباتاً أو جماداً كما تستطيع روحاً لا مرئية».

ومن خلال قراءاتي في نتاجه نجد الإبهار في قصصه القصيرة جداً إنه القاص السعودي حسن علي البطران؛ إذ تتجسد الشخصية المؤنسنة وهي كل شخصية تدخل في إطار غير العاقل لكنها تتصرف تصرف الإنسان، أي تصرفاً عقلانياً، وتظهر في السرد والوصف والحوار بوصفها فاعلاً، وتمتلك دوراً محدداً حين ترد راوياً ومروياً لهُ، وهي تشكل لحمة المبنى الحكائي كما في الشخصية المؤنسنة «الضفدع» في القصة القصيرة جداً «عرجاء» من مجموعة «أصغر من رجل بعوضة»، إذ تشتغل على تحول الحيوان إلى إنسان في حالة من الحضور للشخصية المؤنسنة والغياب للشخصية الحيوانيّة وليس بالضرورة أن يكون التحول جسدياً بل - وهو الأكثر - يكون التحول بالمنطق والوعي، إذ يتحول وعي الحيوان من وعي غريزي إلى وعي تحليلي إنساني، كذلك النطق الذي يتميز به الإنسان عما سواه حيث عرفه المناطقة بأنه «حيوان ناطق»، ونطق الحيوان غير الناطق هو تحول من اللانطق إلى النطق، فيكون الحضور للنطق والوعي، فنبدأ بشخصية الضفدعة العرجاء «عرجاء: عاد من رحلته، استقبلته مجموعة من الضفادع، إحداهن عرجاء.. لم يبتسم لكنه لوح بيده نحو الجهة الأخرى، غادرت الضفادع، بقيت العرجاء حتى الصباح ثم غادرت هي ممسكة وردة لكنها غير صفراء».

كما نجد نوعًا آخر من الشخصيات العجائبية وهي الشخصية المتحولة: وهي شخصية تغيب صورتها الحقيقية لتحل محلها صورة أخرى كما هو الحال في شخصية «النصوص الصغير» في القصة القصيرة جداً «دفء غير مشروع» من مجموعة: «أجري خلف خولة»، «حينما غادر أبي مع سرب من الطيور الجارحة في رحلته الموسمية أو هجرته كطير يبحث عن البيئة والفريسة كنت أنا ما زلت في عشي حتى الريش لم ينبت في جناحي، كنت أنتظر من يشبع جوعي، فقد تركتني هو وأمي دون الاهتمام بي كوني صوصاً صغيراً غير قادر... في لحظة ما باغتني ثعبان أسود فتعلقت بجانب العش فجأة التفت علي بكامل جسده وأنا سأموت خوفاً حينما نظرت عينيه أحسست باطمئنان غريب.. حقاً وجدته ثعباناً رحيماً وبقي يرعاني إلى أن نبت ريشي وأصبحت قادرًا على الطيران ثم رحل عني»، تتجسد هنا عجائبية رائعة من خلال التحول المدهش في شخصية الصوص والثعبان الأسود في تكثيف لفكرة أثقلت المجتمع تبعاتها السلبية بصورة جميلة تشد القارئ في حالة من العجائبية بتحول الأطفال الصغار ضحايا التفكك الأسري إلى أفراخ الغراب وحالة الهجر التي يصاب بها، لكن الأجمل هو رعاية الثعبان الأسود كناية عن القدر والأيدي الرحيمة الخفية حتى تمكن اللصوص من الطيران، وهذا يجسد إبداع الكاتب في خلق عالم عجائبي تميز بالاندهاش الغرائبي من خلال اختياره الدقيق لشخصيّاته التي تمتاز العجائبية اللذيذة في شد انتباه القارئ وتدعوه إلى الخوض في غمار قصصه القصيرة جدًا دون الشعور بالملل.

أكاديمية وكاتبة عراقية