دموع الحب الزرقاء «فنتازيا»
قبل آلاف السنين عاشت في جزيرة العشتار قبائل مختلفة في سلام ومحبة، واختلافهم ناتج عن بيئتهم، فهناك البحّار بشجاعته وإقدامه وطول قامته، والمزارع بصبره وهدوئه وجمال ملامحه، وأهل الجبل الأشداء الأقوياء بعضلاتهم المفتولة.
وقد نتج عن هذا التعايش أن تزوج بعضهم من بعض، فظهرت سلالة جديدة هجينة، فيها القوة والذكاء والشجاعة، فقد درس فريق منهم السحر وأجاده، وتعلم بعضهم صناعة السلاح فأتقنه، وقسم تدرب على فنون الحرب فبرع فيها.
واستمرت الحياة هادئة حتى دخل الشيطان بينهم، ونشبت حرب ضروس لسبب تافه.
فقد تنمّر رجل من قبيلة «البحّاريين» على طفل هجين قصير القامة جدًا أمام أمه التي تنتمي لقبيلة «اللوزيدات»، فغضبت وشتمته، فلم يتحمّل وشتمها.. ”والحرب أولها كلام“، فغضب الطفل لأمه وعض الرجل في ساقه حتى أسال دمه، فتجمّع أفراد هذه القبيلة وتلك القبيلة، وبدأ النزاع الذي استمر عشر سنوات.
في السنة العاشرة مات زعيم قبيلة المراحيم «من سلالة الهجين» وجاء ابنه «خوشناڤ» الذي كان يمتلك أحجار القوة الثلاثة، حجر الحكمة، وحجر العلم، وحجر النصر، بالإضافة إلى وقوف بعض القبائل معه ضد الحرب كقبيلة أرض الجبل والسنابيش، وهما من أقوى القبائل شجاعة وعلمًا ودهاءً.
ولأنه يختلف عن أبيه الذي كان يفضّل الحياد، فقد تدخّل واستطاع بحكمته وقوته أن يوقف الحرب، ويصلح بين المتحاربين، وأخذ على الجميع تعهدًا أن يكون التعايش هدفهم، والحوار طريقهم لحل أي نزاع.
كانت القائدة كادي «قائد كتيبة الفرسان في قبيلة السنابيش» والقائد جُنيد «قائد عمليات الإسناد والمستشار الأول في قبيلة أرض الجبل» في خيمتهم يناقشون أمور الهدنة، فقاطع حديثهم صوت يطلب الإذن بالدخول، رفع جنيد الساتر فرأى نورشين «شقيقة خوشناڤ» أمامه بصحبة سيدة ترتدي ملابس عسكرية وتضع خنجرًا في وسطها، ابتسمت له ورحب بها فدخلتا، وجلستا إلى جانب كادي التي بدت مضطربة، وأشارت نورشين إلى الفتاة، قائلة:
- جوخدار، فتاة طيبة ولها خبرة في قراءة الخرائط تود الانضمام لكم، وتقديم يد العون والمساعدة.
قالت كادي: أهلًا.
فأجابتها جوخدار: أهلًا.
واكتفى جنيد برفع يده مُرحبًا، وعيناه جاحظتان كأنه يحذر من شرّ قادم.
قالت نورشين: الحمد لله لقد انتهت الحرب، فقد مللنا ثقل الدروع، وحرارة السيوف.
وضع جنيد يده على قائم سيفه، وقبل أن يجرده من غمده مسحت جوخدار على الخاتم الذي في سبابتها فانتقلت إلى جانبه بسرعة البرق وخنجرها في عنقه.
وهمست: مازال الدم المتنجس بالخيانة يجري في عروقك.
قال: هل جئتِ لتنقضي اتفاق السلام؟
أمسكت نورشين بيد جوخدار وطلبت منها أن تهدأ، فقد انتهت الحرب، وحلّ السلام.
نظرت جوخدار لعيون جنيد مباشرة، ولكنه أشاح بوجهه وذهب بعيدًا وجلس.
أعادت جوخدار خنجرها في وسطها، وتقدمت نحو جنيد ووضعت يدها على كتفه وهمست: ”وكأنني أخبرتك بما يحزن قلبي.. فعاقبتني بغيابك“.
أزاح يدها عن كتفه وغادر.
إن همّه ثقيل، وحزنه متجدد، وذكرياته سوداء، وقد حاول أن يصفح عنها لكنّ الجرح أعمق من العفو.
لذلك لم يصبر لرؤيتها تخرج خلفه، ففاجأها بضربة بسيفه تفادتها وسقطت على الأرض، ولحقها بضربة أخرى فهربت منها، ورمته بحجر أصاب رأسه وصرخ من شدة الألم، فخرجت نورشين وكادي مذهولتين، وشاهدتا الدماء تسيل من رأس جنيد وجوخدار تقف بعيدًا.
***
قبل سنوات عديدة كان جنيد يتجول في الغابة يبحث عن صيد، فصاد جوخدار بسهمه.
توقفت تنظر إليه وهو يصوب سهمه ليصطاد غزالًا، فأصابت قلبه.
بدأت شجرة الحب تنموا وتظللهما، وسارت الأيام السعيدة بهما سريعًا.
كان يسكب في أذنها: ”يكفي أن تعشقني امرأة مثلك.. يكفي.. يكفي“.
وكانت ترد عليه: ”هل أنت حقيقة أم وهم صنعته؟“
وكان العائق الوحيد أمام انتهاء قصتهما بالزواج، هو موقف والد جنيد، شيخ قبيلة «عقيليش» فقد رفض أن يتزوج ابنه من هجينة.
كان يُكبر ذلك فيه، فإن أسرته تنحدر من سلالة العلماء، وقد تفوق «جنيد» على إخوته، فهو العالم بينهم، والعارف بالعلوم الخاصة، والمتمكن من الطبيعة، والقادر على فك رموز السحرة، وقراءة التعاويذ واستخدامها.
لم يستسلما للرفض، فكانا يتواعدان سرًا، يلقيان عليهما رداء الاختفاء ويجلسان على ضفاف النهر، أو في أطراف الغابة، لكن الغرام فاض وطغى، فقررا أن يتزوجا في السر، ويجعلان الجميع أمام الأمر الواقع.
شك والد جنيد في أمر ابنه، فجعل يراقبه عبر تعويذة عين الصقر، التي يقرأها على إناء الماء، فيشاهد جنيد أينما ذهب، ولم يكن جنيد بالغبي، فكان يخفي نفسه حتى عن أبيه بتعويذة التوائم، التي تظهره في مكان وهو في مكان آخر مع حبيبته في حدائق العشق والهيام.
وجاء الحمل ليفضح ما كان خافيًا، ويضطر جنيد للاختفاء، فتستسلم جوخدار لقرار ظالم وتتخلص من الجنين، وتترك وعائلتها القرية إلى مكان آخر.
**
جوخدار: لقد غدر بي وتركني وفي أحشائي طفله.
جنيد: لم اغدر بك، بل أرسلني أبي لشراء مؤونة الشتاء، وعندما عدت قيل لي أنكم رحلتم إلى مدينة أخرى.
⁃ إنك كاذب ولا تعرف إلا الغدر والخيانة.
⁃ بل أنتِ لا تقدّرين تضحياتي من أجلك.
⁃ الحب كالحرب للشجعان فقط، وأنت جبان كالأرانب.
⁃ القلب المحب طفل أخرس، ولن تسمعين مني إلا ما قلته سابقًا.
⁃ الفقد خنجر في خاصرة القلب، ولقد دمرت حياتي باختفائك.
لم تتحمل ذكريات تلك الأيام، وكيف أنها فقدت جنينها بسببه، فلم تمهله أن يكمل قوله حتى ارسلت خنجرها تريد قتله، لكنه وضع يده ليتقيه، ويحمي قلبه الذي كان هدفها، فجرحته جرحًا غائرًا.
اجتمع الثلاثة يراقبون جنيد وهو يخرج الخنجر من يده، والدماء تنزف، فرقّ قلب جوخدار وتذكرت الحب الذي بينهما، فقطعت شيئا من قماش ثوبها واخذت تلف جرحه وتضمده.
ما أن انتهت حتى دفعها وهو يبكي، ويقول: لماذا هذه القسوة؟ من أين للوردة هذا الحقد؟
قالت: للوردة شوك تدافع به عن نفسها.
⁃ اعتذر لقد ظلمتك كثيرًا.
⁃ لقد آذيتني بغيابك، ولم يكن أقل ما بي، ففقدي لجنيني جعلني أكرهك.
⁃ ليس جنينك بل ولدنا.
⁃ أنت لا تعلم أي جرح يتركه فقد الأمومة!
اقترب منها أكثر ثم عانقها وجعلا يبكيان.
فبكت نورشين وقد أمسكت بيد كادي وهي تقول: الولد عزيز.. ثم وهي تشير لهما: يجب أن نتمسك بالحب والسلام حتى لا نبكي على الراحلين، فهناك أشياء جميلة تموت بعد كل راحل.