أفكارٌ مُسافِرةٌ نحو السّماء
صادفه في المشْفى مع ابنه المعاق يلتمس له علاجًا ساحرًا يُخفف آلامه المُبْرحة، حبّه لابنه بدا واضحًا، فقد كانت ملامحه تتظافر جميعها لإظهار الحزن والأسى المرسومان على وجهه.
في الجهة المقابلة كان رفيقه ينظر إليه وهو يتمتم بعبارات لا أحد يسمعها، دار بينه وبين نفسه حديث ظالم، أحاديث شيطانيّة أطلقتْ أحكاما جائرة أجراها على لسانه قائلا:
العاهات والمصائب هي قصاص عادل أنزله الله تعالى بأصحابها هي أفكارهم وأعمالهم قد ارتدت عليهم.
تأملتُ في هذا المشهد الساخر جلْتُ ببصري بينهما، فأحزنني رؤية من ابتلاه الله بولد معاق يصرف جلّ وقته وماله في علاجه، تبدو عليه علامات الإرهاق والتعب النفسي.
حاولتُ تطبيق قانون الزراعة والحصاد على فتاة خرجت من بطن أمها عمياء، كيف لها أن تزرع بذورا سيئة في بطن أمها؟!
بحثت في جعبتي عن تعليلات لهذه الابتلاءات فصادفت قوله تعالى في كتابه الكريم:
﴿وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَ الْجُوعِ وَ نَقْصٍ مِنَ الْأَمْوالِ وَ الْأَنْفُسِ وَ الثَّمَراتِ وَ بَشِّرِ الصَّابِرِينَ﴾ «سورة البقرة، آية 155»
أغمضت ُ أفكاري، لكنّها أبت المكوث سافرتْ نحو السّماء وهناك حطّت رحالها، في سماء اللهِ، حيثُ رزقكم وماتوعدون.
هنا ينتزع القدرُ الفرحَ وتُزرع الأحزانُ، وقد يتغير مسار خط الألم إلى صحة وعافية.
هنا لايسع المرء أن يغيّر قدره إلا بأسباب مخصوصة.
في السماء قدرٌ يصعب المرء إبرامه بنفسه
فهناك من يصل بأمنياته للعنان فتسقط، وقد يتعثر في الحصول عليها، وتجري المقادير بما لاتشتهي سفنه، وهناك من ينعم برغد العيش، بأبناء صالحين، بمال وبنين وأمور معاشه بخير دائم.
ولكن الفيصل الابتعاد عن النظر لنعم الله على عباده.
قال تعالى: ﴿وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلى ما مَتَّعْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَ رِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَ أَبْقى﴾ «سورة طه، آية 131»
وهناك من يحمد الله ويشكر فضله عند رؤية أهل البلاء فيقول:
«الحمد لله الذي عافاني مما ابتلاكَ به وفضلني على كثير ممن خلق تفضيلا»
أيقظني من أفكاري نداء الممرضة فقد جاء دوري للدخول على الطبيب باشرت بالنهوض من مكاني وأنا ألتمس الشّفاء لجميع المرضى، تذكرتُ ما جاء على ألسنة العرب: «كُلُّ ذي عاهةٍ جبّارٌ»
وأحببتُ نقل هذه القصّة الظريفة لتوضيح المعنى، عن أحد الأشخاص المُصاب بلدغة في حرف الراء فقد اعتاد أن يجلس في مجلس الخليفة، وكان مشهورًا بإتقانه اللغة، وذات يوم أراد بعض حسّاده أن يضعه في موقف مُحرج فقالوا للخليفة:
لمَ لا نجعله ينشر خبرًا حاكوه له؛ بحيث لم تخلُ كلمة منه من حرف الراء، فقالوا له: أمر أمير الأمراء وزير الوزراء بحفر بئر في الصحراء ليشرب منه الشارد والوارد.
ولما قرأ الورقة عرف أنهم يكيدون له، فقال على الفور وكان حاضر البديهة:
حكم حكيم الحكماء على نديم الندماء بشق جبّا في البيداء، ليسقي منه الغادي والبادي.
نسأل الله لنا ولكم السلامة والعافية من كلّ مكروه ونحمده تعالى إذ لم يجعل البشر شهودًا بعضهم على بعض، وإنما جعل الأماكن تشهد علينا، وأنطق أجزاء جسمنا يشهدون بالصالح والسيء من أعمالنا واستثنى الأصحاب وغيرهم.
يقول الحق تبارك وتعالى في كتابه الكريم:
﴿يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَ أَيْدِيهِمْ وَ أَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ﴾ «سورة النور: 24»