آخر تحديث: 21 / 11 / 2024م - 1:41 م

البحث عن منفى لـ «سلمان العيد»... قراءة سوسيولجية.

جعفر العيد

البحث عن المنفى رواية جديدة للكاتب سلمان العيد، مكونة من 173 صفحة من القطع الوسط، ومقسم إلى سبعة فصول، الطبعة الأولى صادرة عن دار ريادة للنشر والتوزيع 1444 هج الموافق 2022 م، المملكة العربية السعودية.

تاريخ الرواية:

على الرغم من أن الكاتب لم يذكر تاريخ أحداث الرواية، إلا أننا ومن مسيرة الأحداث نعرف تاريخ الرواية بشكل تقريبي، فالرواية تتحدث عن مجتمع ما قبل الثورة النفطية، حيث تسلط الضوء على جغرافية جزيرة تاروت، مناطقها، والأوضاع المعيشية فيها، في السبعينات من القرن الحالي، حيث أن السكان كانوا يعيشون الحياة بصورتها الأولية البسيطة، السيارات محدودة في هذا البلد، الاعتماد الكبير في تفاصيل الحياة، معتمد «بشكل كبير» على الحمير وعرباتها، تحدثت الرواية أيضا عن الغطاء النباتي الأخضر في شتى أصقاع الجزيرة، ناهيك عن وجود ينابيع المياه بعضها حفر بيد الإنسان، وبعضها تفجر بقدرة الله.

منابع العنف والقطيعة:

إن انتشار ظواهر العنف الاجتماعي في المجتمعات، له جذور ومسببات، ومنها منهج التعامل بقسوة مع الأبناء، وعدم وجود أي أسلوب تفاهم وحوار بين رب الأسرة وبقية أعضاء الأسرة. فبالرغم من وجود هذه الجماليات البيئية المتعددة في جزيرة تاروت، إلا أن ثمة صعوبات في أساليب التفاهم بين أفراد الأسر، والتنازع بين الناس منتشر بشكل كبير، ويؤدي إلى خلق حياة اجتماعية مؤلمة وصعبة ومنغصّة، خصوصاً لبعض أفراد الجيل الجديد «في ذلك الوقت».

ومنها الممارسات التي كانت تمارس تجاه الشاب أحمد بن عيسى بطل الرواية «البحث عن منفى»، حيث كانت العقوبات تنهال عليه من عدة جهات، دون السماح له حتى بتوضيح موقفه، ولا يبدو أن هذا الأسلوب مقتصر على بطل هذه الرواية، أو في القطيف أو في العالم العربي. هذه العقوبات كانت تجري في البيت، وفي الشارع، وتمارس من قبل المعلمين في المدرسة. هناك قناعة تامة بجدوى العنف مع الأطفال، والعنف سائد في الشارع بين الجيران، وبين الناس في تعاملاتها، ناهيك عن المسؤولين عن التربية والتعليم... مجتمع كان يسير نحو الانحدار.. كانت خسائرهم كبيرة. فكثير من الناس قتلوا، وآخرين أصيبوا بعاهات، وكثير من الطلاب تسربوا من مدارسهم هرباً من بطش المعلمين، وعدم تفهم الآباء لحاجاتهم.

بلا شك أن الصورة لم تكن سوداوية بهذه القتامة، كان هناك ثمة رجال دين يؤمنون بالكلمة الحسنة، وكان هناك رجال صالحون يحاولون نشر السلم والمسالمة بين الناس، لكن الصورة الغالبة هي ما قدمناه سابقاً.

بطل الرواية أحمد بن عيسى من جزيرة تاروت، تعاورته يد العنف غير المبرر جسمياً، ونفسياً باعتبار أن الصفعات، والركلات تجري أمام الأهل والأصدقاء، والضيوف، حاولَ مراراً أن يتكلم، أن يوضحَ موقفه فلا يسمح له.. الأمر الذي سبب له جروحاً نفسية عميقة.

ولذلك توصل أحمد إلى قرار الفرار من هذا المجتمع بأسره، وفي سبيل تحقيق هذا الهدف، جرب ولأكثر من مرة أن يرحل من منزله إلى تاروت الوسط، ومرة أخرى يحاول أن يبقى مع صديقه ضيفاً طوال الليل، ابتعاداً عن منزل الأسرة، الذي كان يذكره بآلامه.

فكر أن ينام في المقاهي المنتشرة في وسط جزيرة تاروت، ثم فكر أن يختفي في أحد المزارع المبنية للزراعة، إلا أنه أقفل عنها جميعا بعد أن عرف أن هذه المزارع تضم أسر المزارعين، الذين سرعان ما سيوشون عليه عند أسرته، فأين سيصل به المسار لا أحد يعلم.

أصبح بطل الرواية مثل الإسفنجة، فكلما شاهد بعض مظاهر العنف من قبل والده، أو أبي غيره من الأقران، أو العنف الصادر من قبل المعلمين تجاهه، أو تجاه غيره من الطلاب، هؤلاء هم المعلمين كانوا يفترض أن يكونوا قدوة للجيل الجديد.

ومما يؤسف له، فقد مورست. تحقق الطلاب الصغار في بلادنا فنون التعذيب وأشكاله، أقلها اللطم والركل، وجر الأذنين.، وأعلاها ضرب الفلكة، كله ذلك مورس بتبرير التعليم والتأديب للجيل الجديد «في ذلك الوقت».

هذه القصص وغيرها، تعيد وتكرر في داخله كيف أنه ظلم ظلما كبيرا بسبب لا شيء، ففي مرة ترك صديقه مبلغ 10 ريالات، ونزل للسباحة، وفي غمرة الأحداث، طلب منه صاحب المبلغ إرجاع المبلغ، ولأن المبلغ كان في جيبه، لم يصرفه، أخرجه، وأعطاه المبلغ، وصادف أن صاحب «الدكان» هو عام بطل الرواية أحمد بن عيسى، فما كان منه إلا أن أسرع. وأبلغ. والد أحمد بما شاهده. وأضاف إلى ذلك كلاما هو عبارة عن تحليل للموقف. ورؤيته بأن أحمد أصبح منحرفا ضمن شلة المنحرفين، ومنها صاحب العشرة الريالات الذي استلمها من ولده. أحمد.، ربما كان ضمن التحليل. أنهم مجموعة من السراق، وما إن رجع أحمد بن عيسى إلى البيت، ومن دون كلام، ضرب بالعصا وباللطم والركل، وكلما حاول أن يتكلم منع من الكلام.

وهكذا تكسرت الكلمات في جوفه، ومعه تحطمت شخصيته، وشعر بمهانة كبيرة. وحزنا أكبر من ذلك، والترجيح. لموضوع الهجرة من هذه البلد التي كان يزور في تفكيره.، ويخطط إليه. ويجرب. عدة سيناريوهات. للهرب.، وفجأة يتخلى عنها بحجة أنها قد تنكشف وتفشل.

300 ريال قارب الهروب

تظل جزيرة تاروت قرية أمام القطيف. المدينة، حيث الأسواق الكبيرة، والسلع المتوفرة، وكثيرا ما يحتاج أبناء القرى. إلى قصد سوق السمك في القطيف، أو سوق الخضار المركزية في القطيف، أو سوق الخميس لشراء أغراضهم.

ففي يوم من الأيام احتاج والد أحمد بن عيسى إلى مجموعة من الأغراض، فأعطى ابنه مبلغ 300 ريال. وغادر أحمد إلى القطيف، ولم يعد.

مكث في مدينة القطيف ثلاثة أيام، يقضي النهار متسكعاً في مناطقها وزقاقاتها، ويقضي الليل نائماً في أحد مساجدها، وفي اليوم الثالث رحل مع سيارة أجرة إلى مدينة الخبر. وهكذا كتبت. 300 ريال التي أعطاها إياه والده. تاريخ هجرته أو فرصة هروبه إلى البعيد.

أما أسرته ووالده لمّا أضنّاهم البحث والتنقيب في كل الأماكن، سلموا أمرهم إلى الله وقالوا إنه قد قضى نحبه، ولا يعرفون أي أرض حوته، ووجهت والدته واللوم إلى والده بأنه هو السبب في هروب هذا الابن، وأخفى الوالد آلامه، وتحسره للظلم الذي أوقعه بابنه، وتمنعه الرجولة عن الاعتراف بأخطائه، عقدت الفاتحة غيابيا على روح الابن، ورجعوا إلى ممارسة حياتهم الطبيعية من دونه.

البداية غلطة تكبر وتتواصل:

في مدينة الخبر قال إنه يبحث عن عمل وقال إنه من الجنسية العمانية عندما تعرف على رجل الأعمال بن فاضل. وصادف أن بن فاضل كان محتاجاً لأحد الموظفين أن يعمل خادما في البيت، وتوسم في أحمد بن عيسى خيرا.

اشتغل لعدة سنوات في بيت بن فاضل يرحب بالضيوف، ويصب القهوة، وواصل كذبه، وهي غلطة أولى. وحسب أن هذه الغلطة ربما تنتهي يوماً من الأيام، ويعود إلى بلده القطيف.

ويشاء القدر أن يكون الرجل الأعمال الفاضل يعرف جماعة من العمانيين في السفارة، أخرجوا إلى أحمد بن عيسى جوازا مؤقتاً.

بعد فترة ليست قصيرة من العمل في بيت رجل الأعمال بن فاضل، اشتاقت روح أحمد بن عيسى إلى تاروت، ولكن بفعل وجود الجواز العماني «المؤقت» لقي نفسه مضطرا لأن يقول إنني أرغب الذهاب إلى عمان، ووجد نفسه راحلاً إلى دبي على متن أحد الزوارق.

عندما أبدى أحمد بن عيسى رغبته بالسفر إلى عمان، قام العم بن فاضل. بجمع بعض الهدايا، تقديرا لجهود الرجل معه، وشيّعه إلى المركب الذاهب إلى الإمارات.، وأعطاه شيكاً بمبلغ مالي، لا يستطيع صرفه إلا في دولة الإمارات العربية المتحدة.

وفعلاً سارت أمور بن عيسى بشكل سهل ولطيف، وتخطى جميع الحواجز، ووصل إلى صحار، باعتباره أنها ادعى أنه من منطقة صحار، واستطاع فعلا أن يصل إلى أحد العمال. العمانيون الذين اشتغلوا معه في السعودية، وتمكن من إخراج جواز جديد لمدة خمس سنوات، واستطاع أن يحصل على قطعة أرض وزرعها، والتعرف على والي منطقة صحار، وأصبح محط ثقتهم.

وتدور الأيام إلى أن جاء يوم استدعته زوجة والي صحار إلى بيتها، وقامت بمباشرة إكرامه بنفسها، وصدمته عندما نادته باسمه السعودي، ولم تكن عدائية في نطقها باسمه، لكنها كانت مشفقة عليه، وعلى أهله الذين افتقدوه، وحذرته من أن الأمور الناعمة في عمان قد تخفي في داخلها ”وصولك واستدعائك إلى التجنيد الإجباري“ «كما تخبرنا بذلك الرواية».

أمام هذه المستجدات، استعاد بن عيسى رشده، وفكر في أمره، ورأى أن ما أخفاه قد بات معلوما للجميع.

وقرر أن يفر من مستنقع عمان الذي اختاره بنفسه. وعادت إليه آهاته وأشواقه القديمة التي طمرها في قلبه، وعاد قلبه الكبير ينبض تجاه جزيرة تاروت وأهلها، وناسها.

عودة الابن الآبق:

أعتقد أن الكاتب والروائي سلمان العيد، يخوض في هذه الرواية مغامرة تجاه الأساليب، والأسس والترتيبات التي اصطلح وسار الروائيون الغربيون عليها، ولحق بهم معظم الروائيين العرب. «ومنها الابتداء من حيث نهاية أحداث الرواية أو الإشارة لها على أقل تقدير.».

الأمر الذي قد يعتبره بعض النقاد والقراء، ومتذوقي فن الرواية نقصاً، أو تقصيراً من قبل الروائي، أما أنا فأعتبرها باختصار مغامرة ضد ما تعارف عليه الكتاب والنقاد من مبادئ في فنّ الرواية.

كما أنني كنت أتمنى من الكاتب أن يسلط الضوء على شخصية «أحمد بن عيسى» من الداخل أكثر مما وصفت في الرواية، لأن شخصية من هذا النوع، لا شك أنها تحمل أبعاداً كثيرة.

فهو «بطل الرواية» استطاع أن يكسب رجل الأعمال «بن فاضل» في منطقة الخبر، واستطاع كسب ثقة والي صحار، يبدو لي أن هذه الشخصية تحتاج إلى التأمل أكثر في إبداعاتها.

فليس هيناً ولا قليلاً أني يستطيع شخص واحد كسب كل هؤلاء على اختلافهم، والاحتفاظ بقدراته العلمية والتفوق في مجتمع عمان، بحيث يصبح مطلوباً للعمل في أجهزة الدولة العمانية.

لكن يشفع للكاتب أنه سلط الضوء على مسألة اجتماعية هامة، وهي العنف والاضطهاد في مجتمعاتنا. إضافة إلى ذلك، كانت الرواية مليئة بالتشويق الدرامي التي لا تدع للإنسان حرية الاختيار، إلا أن يقرأها ويكملها، أو يذهب إلى كتاب آخر.

لقد استغرق هذا الغضب، والزعل والطفش من الظلم والعنف، أن يغيب هذا الابن عن أسرته، طيلة خمس سنوات، بعدها عاد عن طريق الاتصال ببعض الأقارب، مع التعهد من قبل الأب بعدم التعرض للابن بالضرب مرة أخرى.

هناك تفاصيل كثيرة تحكي قصة هذا العذاب، وقصة هذا الهروب الكبير، التي قام بها بطل الرواية، المهم أنه عاد إلى وطنه، لم ينس أحمد بن عيسى، أن يزور عمه بن فاضل في الخبر. ويكشف له حقيقة جنسيته السعودية ويعيد إليه مبالغة التي صرفها عليه، إلى تضاعفت هذه المبالغ وحولت حياته من حسن إلى أحسن.

في الأخير... وعلى الرغم من الظلم والعنف إلا أن الرواية بدت جميلة وممتعة، لوجود الكم الهائل من قفشات بطل الرواية أحمد بن عيسى، وتشاهد تاروت البكر بجميع عناصرها الحيوية، وكأنك تتجول في حاراتها ومزارعها عبر فيلم سينمائي، عندما تبدأ بقراءة رواية «البحث عن منفى» لسلمان العيد، لا يسعك إلا أن تكمل قراءتها. والله الموفق.