آخر تحديث: 22 / 11 / 2024م - 1:35 ص

معركة كربلاء.. لوحة نادرة

عبد العظيم شلي

كثيرة هي اللوحات الفنية التي تجسد واقعة الطف، من جوانب متعددة، وبالتقاطات بصرية متنوعة، بعضها مباشرة وأخرى رمزية، منجز هائل من اللوحات ضمن معالجات تقنية ومدارس وأساليب تشكيلية قديمة وشعبية ومعاصرة، ثمة لوحة كبيرة الحجم موغلة في الزمن حيث رُسِمت قبل 100 عام، تقبع في أحد متاحف أمريكا، ونسخة مشابهة معلقة في أعرق متاحف هولندا، جاء في تعريفها، شرح تاريخي مختصر يوضح للزوار محتوى ومضمون العمل، وقد كلفت الأخ محمد حسن الدرازي بترجمة النص الإنجليزي، الذي جاء فيه: «إن هذه اللوحة تمثل ذكرى استشهاد الإمام الحسين حفيد النبي، والإمام الثالث زعيم المسلمين الشيعة، قتل على يد قوات الخليفة الأموي يزيد بن معاوية في صحراء كربلاء، في وسط العراق عام 680 م، قاد الإمام الحسين مقاومة ضد الحكم الأموي الذي يعتقد المسلمون الشيعة عدم شرعيته.

ومحور هذه اللوحة تصور الأخ غير الشقيق للإمام الحسين، ابو الفضل العباس معتليا حصانه الأبيض، يطعن بشجاعة جيش يزيد، وعلى يسار اللوحة كثير من الجزئيات التي تمثل عذابات الإمام الحسين ورفاقه في أثناء المعركة، وعلى يمين اللوحة يُرى الإمام الحسين ورفاقه نحو السماء في الجنان، بينما خصومهم في أسفل الجحيم.

إن لوحة معركة كربلاء تعيد تفسير المعركة الضخمة، وتوضح مدى التطور الفني في البلاط الزندي والقاجاري في إعادة التفسير الكامل للجماهير الشعبية خلال أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين.

إن مثل هذه اللوحة تمثل إحياء في إعادة تمثيل المعركة التي دائما ما يعاد تمثيلها سنويا من خلال المواكب الاحتفالية في التعزيات.

رسمها الفنان الإيراني ”عباس الموسوي“ على القماش بالزيت في مدينة اصفهان في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين خلال الفترة القاجارية، مقاسها 182,9×299,7 سم، وقعت تحت دراويش عباس بوفاسي - اصفهان وقد عثر على نقشين مهمين بالفارسية باسم الفنان على صدر اللوحة» - انتهى الاقتباس -

القراءة الفنية للوحة: «Battle of karbala»

إنها لوحة بانورامية تستعرض سير وقائع معركة كربلاء وتوضح مجريات لما قبلها وما بعدها، يبرز عنصري السيادة وهما الأكبر حجما والمتمثل في شجاعة وإقدام أبي الفضل العباس محلقا بفرسه في ساحة الوغى، يطعن بسيف الحق أحد أعداء الدين ذو الوجه الشيطاني، مترنحا للوراء من هول الضربة الماحقة، مفلوق الهامة والجبين والصدر، جاحظ العينين تحاصره سكرات الذل والعار يلفظ أنفاسه الأخيرة.

أما بقية المشاهد، وهي الأصغر تكوينا، فإنها تتوزع على بقية مساحات اللوحة من كل الجهات، وهي تحكي «سيناريوهات» الواقعة بتفصيلاتها المفجعة، ويبرز من بين ثنايا الخلفية أبي الأحرار يتلألأ عنفوانا في أكثر من مشهد.

إيقاع سردي يتصاعد بين تقاسيم الحق والشرف والفداء وبين مآل أصحاب الأباطيل والضلال، تتمثل اللوحة بالديناميكية المكثفة، أشبه بشريط سينمائي، تأخذ عين المشاهد ضمن رؤية متتابعة الالتفاف حول عنصري السيادة، «محوري الحق والباطل» ليؤكد الفنان بأن هذه الرؤية هي ديمومة مستمرة ومستعرة بالذكرى الأليمة والمعطرة بالعزة والإباء والكرامة.

إنه دوران لتوظيف الشكل كتعبير لا متتاهي ليعبر الأمكنة، ويسبح في فضاء الأزمنة، لتبقى رمزية الحدث، حية أبدية تتوارثها الأجيال كتعاقب الليل والنهار.

يطلق على هذا العمل الصفة الواقعية المبسطة سواء من ناحية رسم العناصر وتكوينها أو طريقة تلوينها، فاللوحة لا تخضع للمفاهيم الأكاديمية الصرفة، كتوزيع الظل والنور أو التشريح وأبعاد النسب، وأيضا متجاوزة للمنظور البؤري والهوائي، فينظر إليها من زاوية الوصف التقريري المباشر، المقروء بصريا بيسر وسهولة، فجزئيات العمل، وإن أتت بطريقة الرص المكثف، إلا أنها مرسومة بدقة تفصيلية من ملابس وملامح وإكسسوارات المعركة، أجواء اللوحة فنيا تحيلنا على جمالية فن المنمنمات الذي يتقاطع معها في الخصائص التوظيفية والعناصر الإيضاحية التي تجمع بين الأمكنة والأزمنة في حيز واحد، دون الاقتران بقوالب المنمنمة ونمطيتها المعمارية ذات الخاصية الزخرفية التزيينية والتوضيحية التي ترافق عادة المخطوطات.

الفنان عباس الموسوي أراد أن يقدم كل شيء دفعة واحدة وبصياغة تأليفية مرتبة حسب ذهنيته التخيلية لماهية تسلسل المعركة والمدرجة سلفا ضمن الذائقة الجمعية، جاعلا من كل عناصره تنطق بحورات سردية مكثف بلاغيا وبصريا مع ما يكتنفها من أوجاع وآلام ومسرات، تقاسيم اللوحة تحمل بعدا تاريخيا بشقيه الملحمي والديني، دون المحاكاة المغالية للفن الرومانتيكي أو ملامح الأيقونات، وإن أخذ شيئا طفيفا من ذلك، خصوصا الهالات النورانية المحيطة بالرؤوس، ويتجلى العمل الناطق بالمعاني الوجدانية بمشاهد مؤثرة عاطفيا لسير جوانب من المعركة الخالدة والمقدسة في ضمير الأمة، مستلهما الفنان من وحي تاريخ بلاده التليد وتقاليده الفنية المتوارثة، وتكمن جماليات العمل بالرغم التراجيديا الطاغية على أغلب محتوياته بعدم ترك أية مساحة دون فراغ باستغلال التوزيعات المثالية والمتقاطعة إستاتيقيا لحسابات النسبة «الذهبية والهرمية».

إنها مشاهد ملحمية تحمل تكوينات مموسقة من بصمات الفن الفارسي العريق، ممزوحة برؤية الفنان واعتزازه القومي وانتمائه لجذوره الفنية والدينية الضاربة في القدم، كل تكوينات اللوحة أشبه بطقس شجي نسمع نياحاته المفزعة أنينا مسافرا حيث تاريخ الواقعة وكأنها لم تزل مستعرة نابضة في الوجدان، تنضح العناصر في كل جزئياتها بألوان شفيفة وأخرى معتقة آتية من أزمنة غابرة، فكل خطوطها ونفسها التشكيلي وقدمها الزمني بمثابة مخطوط نادر ونفيس، يغري العين بقراءتها لعمقها الفني والدلالي، مما جعلها شامخة كتحفة فنية ثمينة متفردة ضمن مقتنيات متحف «بروكلين» بنيويورك، شاخصة أمام الأبصار تتحاور مع الزائرين كل يوم.