وجه الصباح علي ليل مظلم «2»
وبعد أن وقفنا أمام الجزء الأول من القصيدة، نجد أنفسنا في الجزء الثاني أمام عالم آخر، من جهة المعنى والمبنى، فتجد هنا الحديث عن الشجاعة وعن المأساة الأكثر دموية، ولكن بأساليب فنية مختلفة نوعا ما، يؤكد مبدئية الصراع، وإن اختلفت وسائل التعبير عنه، وتنوعت الصور الفنية في عملية وصفه..
فيقول:
وقع العذاب على جيوش أمية *** من باسل هو في الوقائع معلم
في هذا البيت يصوّر الشاعر أن العذاب وقع على جيوش أمية، والسبب في ذلك هو أن ثمة رجلا شجاعا ”باسلا“ يعد معلما ”علامة“ في الوقائع ”الحوادث“، يعده الشجعان معيارا لشجاعتهم، ففي حال تم وصف الشجعان تتم المقارنة به، وبشجاعته، فيقال أشجع من فلان، وأقرب شجاعة منه، وحمل روحا من شجاعته، هذا البطل قد هجم واحتدت المعركة واشتعل نارها.. ولجأ الشاعر إلى تقديم النتيجة على السبب، فوصفها باختصار ”العذاب“ ثم أورد تفصيل السبب، سبب هذا العذاب والذي يعد قمة المعاناة، والمتمثل في أن ثمة ”باسلا“ والبسالة تعني الشجاعة والقتال الشديد دخل المعترك بشدته وبسالته بات علامة بارزة في الحوادث، لا تذكر تلك الحوادث إلا ويذكر، هنا الشاعر حينما أراد وصفا إجماليا لهذا الباسل لم يجد سوى القول بأنه ”في الوقائع معلم“ أي علامة بارزة للشجعان، تلك هي الصفة الإجمالية ثم يقوم بتفصيل ذلك بالتدرج وإيراد الأدلة واحدا بعد آخر.
ثم يمضي في وصف المشهد، بقوله:
ما راعهم الا تقحم ضيغم *** غيران يعجم لفظة ويدمدم
لقد استخدم أسلوب الاستثناء المعروف في النحو، وغرضه الحصر، أي الذي ”راعهم“ أي انزل الفزع والخوف، أن ذلك الباسل، قام باقتحامهم بشدة، مثل تقحم الأسد شديد العض الذي يطلق عليه بـ ”الضيغم“، لكن اقتحامه ليس لشدة بأسه فقط، ولكن التقت تلك الشدة مع حالة من الغضب الداخلي ”غيران ويعجم لفظة ويدمدم“ ولا يعرف لغة أخرى غير لغة الحسم والشدة والقوة،
ولعل الشاعر أراد في هذا العرض إلى القول إن هذا الشجاع لا يتقن غير لغة الهجوم، وهو بعيد عن لغة المهادنات، فهو معلم في الوقائع، يقتحم بشدة، يتحرك بغيرة، ولعل سائلا يسأل عن الغضب والغيرة والقوة التي حملها هذا الفارس، فلا يتوقف عن القول بأنها قوة الإيمان والمبدأ اللذين يعدان عوامل دافعة للفعل، ومحفزة لدخول أقصى مواقع الخطر.
وبذلك يؤكد أن بني أمية نزل عليهم العذاب واحتلهم الخوف لأن فارسا غير عادي قد اقتحم عليهم ومواقعهم، وتلك هي حقيقة جهة الباطل التي مهما تقوى شوكتها إلا أنها تعيش الرعب من الطرف الحق.
عبست وجوه القوم خوف الموت والعباس فيهم ضاحك متبسمِ
يسير الشاعر بنمط خاص في توصيف المعركة، وتحديدا شجاعة هذا الفارس، الذي كان غير واضح ولا أحد يعرفه، معتمدا على ثنائية ”السبب والنتيجة“ والتناقضات في الألفاظ والمعاني التي توضح الصورة وتكشفها وتضعها أمام المتلقي بصورة ولا أروع، لكنه تخلى عن شيء من غموضه، مؤكدا على هذا البطل الضيغم الباسل ليس إلا العباس بن علي الذي باتت المعركة وكأنها رحلة سعيدة بالنسبة له، تلك المعركة التي كلها سيوف ورماح ونبال ودماء وجثث وقتلى وخيول، مع ذلك فهو الضاحك المبتسم في وقت الذي كلحت وجوه القوم واكفهرت لما ضاقت بهم الحيل، واستبد بهم الخوف من الموت، فأهم أسباب الهزيمة في المعارك هي خوف الموت، وأسباب الانتصار عدم المبالاة بالنتائج، وهذا ما حدث للعباس مع هؤلاء القوم.. وهنا لم يتخل الشاعر على هوايته في التصوير الفني الدقيق الذي يعتمد الجناس، والطباق والمقابلة، ويحدث أن يجمع بينهما، فالقوم ”عبست وجوههم“ بينما العباس ”ضاحك متبسم“، وهناك ”عبست“ و”العباس“ أي الجناس الناقص، والهدف من ذلك إيضاح الموقف المتناقض بين الطرفين، فممثل الحق يبتسم لأنه شجاع غير مبال بالموت، ولأنه مطمئن للنتيجة أما النصر أو الشهادة وكلاهما خير.
قلب اليمين على الشمال وغاص في الأوساط يحصد في الرؤوس ويحطم، ويؤكد الشاعر هنا على سيطرة العباس على الوضع، فهو يقلب الجيش على بعضه، وينتقل في عمق ذلك الجيش، وكأنه قد دخل حديقة مليئة بالأشجار، فراح يقطع ما تسنى له، ويكسر ما يعارضه ويواجهه. وذلك في إشارة صريحة على أن الشجاعة والإقدام تحقق لصاحبها السيطرة، فلا نصر ولا شهادة بدون شجاعة وإقدام ولذلك:
وثنى أبو الفضل الفوارس نكصا *** فرأوا أشد ثباتهم أن يهزموا
ماكر ذو بأس له متقدما *** إلا وفرّ ورأسه المتقدم
فهو بدخوله تلك المعركة، التي لم يدخلها إلا بقوة وشدة وبسالة واقتحام، ف ”ثنى“ أي رد ”الفوارس“ وهم راكبو الخيل المهرة، لقد ردّهم ”نكصا“ متراجعين مخذولين، لا خيار لهم إلا الانهزام.
وهنا صورة فنية رائعة يقدمها شاعرنا وهي أن الثبات يعني البقاء في المعركة، وأشد أنواع الثبات هو المواجهة والإقدام والكر بضراوة وشدة، ولكن في معركة مع أبي الفضل العباس فإن من يتمكن من الانهزام فهو يحقق أشد الثبات وأشد الانتصارات.. وتلك صورة لإيضاح ما وصل إليه هؤلاء القوم إلى أدنى حالات الهزيمة، حينما لا يجد الطرف المنهزم أمامه خيارا سوى أن يهرب، بل أن الهرب والهزيمة هو النجاح والشجاعة، تلك لعمري معركة تدل على شدة بأس ذلك البطل الذي ”ما كرّ ذو بأس له متقدما، إلا وفر ورأسه المتقدم“.. إن أبا الفضل لا يتعامل مع الجبناء، فهؤلاء قد كتبت عليهم الذلة وليس لهم سوى الفخر بالهزيمة، بينما يتعامل مع ذوي البأس، ومع ذلك لا يتيح لهم حتى فرصة الهزيمة، بالتالي فلا يدع لأحد منهم فرصة الافتخار بالنجاة من سيف أبي الفضل العباس، ولا فرصة الثبات في الحرب.. بمعنى أن العباس واجه صنفين من الجنود، صنفا جبانا رعديدا، فهذا لا خيار له سوى الانهزام، الذي يحقق له الفخر، وتلك أدنى حالات الهزيمة، أما الصنف الثاني فهو الشجاع إذا كرّ أي اقتحم ساحة القتال فإنه سوف يلحق بزميله الصنف الأول ولكن نحو الهاوية وهو يكون أسيرا لسيف ورمح أبي الفضل، الذي يشرّد الجبناء ويجندل الشجعان لذلك:
صبغ الخيول برمحه حتى غدى *** سيان أشقر لونها والأدهم
ما شد غضبانا على ملمومة *** إلا وحل بها البلاء المبرم
وله إلى الأقدام سرعة هارب *** فكأنما هو بالتقدم يسلم
إنها صورة إضافية للمعركة حيث إن الخيول بدأت تتشابه في ألوانها، فلم يعد هناك خيل ”أشقر“ شعره أصفر يميل إلى الحمرة، ولا آخر ”أدهم“ يميل إلى السواد، فهما أمام الموت سيان، وأمام مرأى الدماء وصبغتها لا يختلفان أبدا فالعباس صبغهم جميعا بسيفه، ولكثرة من سقطوا من صولته، فهو أيضا ”غضبان“ أي ثائر من أجل الانتقام، ساخط على الأعداء، وتسيطر عليه حالة من الغيرة، لذلك لم يترك أحدا إلا وطاله السيف، حتى الخيول دخلت في اختلال ألوانها، فصار أشقرها مثل أسودها، وصارت الجماعات تتفرق إذ حل عليها البلاء ”والغم والحزن والكمد“ وليس لها خيار سوى أن تتفرق. إن قمة العنفوان الحربي إذا جاء من شخص غاضب وغضبه منطلق من غيرة وحميّة.
والشاعر الذي تخلى كما سبق القول عن ذاته، ولم يعد يتحدث عن حزنه وألمه وإنما تحدث عن العباس وشجاعته، لكنه يضعنا أمام صورة اجتماعية ينقلها بألفاظ سهلة متناولة، فمن المعروف أن أسرع إنسان هو الخائف فهو كالجبان، لكنه أي أبي الفضل أخذ سرعة الخائف والجبان، فدخل بهما المعركة، رغم ما يحمله هذا التقدم من أخطار، لكنه يظن أن السلامة لا تكمن في الهروب وإنما في الإقدام.. فمن المعروف أن الابتعاد عن المعركة هي السلامة، لكنها في صورة أبي الفضل وحسب الشاعر الحلي تبدو الصورة معاكسة، فالسلامة في الإقدام في المعركة.
إن الشاعر في هذا المقطع انطلق من قاعدة أن هناك صراعا شديدا بين جبهتين، كانت بعض نتائج تلك الجولة هي تقلب المفاهيم، وانقلاب المعلومات، فتجد أن الهروب هو أشد الثبات، وأن الفرار لا يجدي في هذه المعركة فمن يفر يفر برأسه، وأن الأجواء تتداخل مع بعضها، حيث إن قوة المعركة جعلت الناظر لا يرى فرقا بين الخيل الأسود والخيل الأشقر، وأن الجماعة المتجمعة إذ شد عليها العباس تتحول إلى جماعات، لأنه يسرع إلى الموت مثل سرعة الهارب والجبان، وكأن السلامة هي في هذا الإقدام، لا الهرب والجبن.. وتلك أيضا صورة لتقديس الشجاعة وتعظيم قيمة الإقدام.
ثم ينتقل في وصف هذا الفارس الباسل، الذي أدخل الرعب في قلوب الأعداء، وقلب اليمين على الشمال هو:
بطل تورث من أبيه شجاعة *** فيها أنوف بني الضلالة ترغم
إن وراء هذه البطولة قصة، يلعب العامل الوراثي والتربوي الدور الأكبر، فهو العباس، ووالده علي بن أبي طالب، الذي تشهد كافة المعارك له بالبطولة، فهو قالع باب خيبر، وقاتل عمر بن ود العامري، وهو الذي طالما ذب عن رسول الله ﷺ، لذلك فليس بمستغرب أن يكون هذا الشبل من ذلك الأسد، وهذه الشجاعة لها ميزة خاصة، تختلف عن أي شجاعة تذكر، تتسم أنها منطلقة من مبدأ، وانتصاره ليس على أهله، وإنما على بني الضلالة التي ترغم وتكره أنوفها جراء هذه الشجاعة..
لقد أراد الشاعر أيضا أن يقول بأن معركة العباس معركة مبدئية، كما كانت معارك والده، ولم تكن تلك الشجاعة، ولا تلك المعارك من أجل أغراض دنيوية متواضعة أخرى، وأنها متوارثة كدلالة على استمرار الصراع بين الحق والباطل.
يلقي السلاح بشدة من بأسه *** فالبيض تلثم والرماح تحطم
يواصل الشاعر وصفه لشجاعة العباس، فبعد أن أثبت أن هذه الشجاعة جاءت من والده، بفعل عوامل التربية والوراثة يقول إن من الصفات التي يلتقي مع والده، والتي ورثها من والده أيضا أن أنه يتناول سلاحه بشدة، ويقحمه في المعركة، ومن كثرة أدائه وقتاله وقدرته فكل أسلحة العدى تتضاءل وتضعف، وتثلم حدة السيوف وتتكسر الرماح.
عرف المواعظ لا تفيد بمعشر *** صموا عن النبأ العظيم كما عموا
فانصاع يخطب بالجماجم والكلى *** فالسيف ينثر والمثقف ينظم
وضمن الصفة المبدئية التي يتصف بها العباس أنه عرف أن الذين يقاتلهم ويخوض الغمار في صراعهم هم ممن غلبت عليهم الشقوة، ولم يعرفوا طريق الهدى، وقبلوا أن يكونوا مع الضلالة، فهم صموا آذانهم عن النبأ العظيم، لأنهم من الأصل لم يتبعوا الطريق السليم
وهنا قاعدة أخلاقية أشار لها الشاعر وهي أن المواعظ تفعل الفعل الكبير بأهلها، لكنها لا تجدي نفعا فيمن قسا قلبه وعميت بصيرته، وأدمن المعاصي والمنكرات، فالموعظة مثل المطر إذا هطلت على أرض صالحة أثمرت وأنتجت، بينما تكون وبالا إذا نزلت على أرض سبخة. هذا هو نفسه حال بني أمية الذين التقت كلمتهم على قتل ابن بنت نبيهم، ومنعه من الماء، ولم يراعوا له حرمة ولا كرامة، ولم تجد فيهم المواعظ، لأنهم قد أعموا بصيرتهم أولا، ثم صمّوا آذانهم، وليس غريبا أن ينطلق أحدهم يوم عاشوراء ويقول إلى الإمام الحسين بأنه يعبد الله على حرف إذا كان يفهم شيئا مما يقوله الإمام الحسين.
وبعد ذلك كان الموقف هو الحرب وسادت لغة السيف، وراح أبو الفضل العباس يتحدث بالسيف الذي لم جمع الرؤوس ثم فرّقها. ف ”السيف ينثر والمثقف ينظم“ فالسيف ومن صفاته أو أسمائه المثقف، والذي يعني قدرته على الإصابة بشكل دقيق، لذلك كان هو الذي ينشر وفي الوقت نفسه ينظم.
يقول الحلي:
أو تشتكي العطش الفواطم عنده *** وبصدر صعدته الفرات المفعم
لو سد ذي القرنين دون وروده *** نسفته همته بما هو أعظم
ولو استقى نهر المجرة لارتقى *** وطويل ذابله إليها سلم
حامي الضعينة أين منه ربيعة *** أم أين من عليا أبيه مكدم
في كفه اليسرى السقاء يقله *** وبكفه اليمنى الحسام المخذم
مثل السحابة للفواطم صوبه *** ويصيب حاصبة العدو فيرجم
إن شخصا هذه هي صفاته، وهذه هي شجاعته، كيف تشتكي لديه الفواطم العطش، أليس من الغريب أن يقضي عطشانا، وتقضي عائلته عطاشى، وهو الذي بـ ”صدر صعدته الفرات المفعم“، أي بصدر رمحه الماء العذب،
وقد ارتأى الشاعر التعبير عن هذه الحقيقة بطريقة الاستفهام التعجبي موردا سبب هذا العجب، وهي أن هذا الرجل الشجاع الذي يملك القدرة على امتلاك الفرات، ولديه من الشجاعة لتجاوز كل معوقات الوصول إلى الماء، لدرجة لو أن ”سد ذي القرنين“، لاستطاع نسفه وتخطيه، ولو أن الماء في المجرة أي في أعلى عاليات الكون لارتقى إليه، أليس من الغريب أن شخصا هذا حاله يشتكي رعاياه العطش.. تلك والله غرابة الدهر وغرابة الحياة، وغرابة الحدث الذي جرى لآل الرسول في كربلاء.
إن الشاعر ليستدعي ثقافته الموسوعية، فمن جهة اللغة يتحدث عن الفرات بالمعنى الحرفي، وهو الماء الزلال، ويصف الرمح تارة بـ ”الصعدة“ وتارة بـ ”الذابل“ وكلاهما وصف للرمح، كما يصف السيف بـ ”الحسام“ و”المخذم“، وكلاهما وصف يؤدي إلى معنى واحد.. وضمن الثقافة اللغوية تجد كلمات عربية أصيلة ذات صدى وجرس مثل ”المفعم“ والتي تعني المعبأ والمليء، و”الحاصب“ والتي تعني الريح الشديدة التي تحمل التراب وصغار الحجارة.. ومن جهة التاريخ فيورد ذي القرنين الذي وردت قصته في سورة الكهف، وهي قصة موجودة في كتب التاريخ، لا نرى من الداعي التفصيل فيها لاختصار المقام، ولكن الشاعر استدعى تلك القضية في إشارة إلى صلابة وقوة عزم وهمة أبي الفضل، وقدرته على تخطي السد وتجاوزه أيضا.. والحال نفسه حينما يستدعي أيضا معرفته بالأنساب والأحساب، حيث يورد قصة قبيلة ربيعة العربية العريقة، واحد أفخاذها وفروعها قبيلة مكدم، وكلاهما قد اشتهرتا بقوة بأس رجالها في حروبهم.. ورغم تخلي شاعرنا على عرض المتناقضات، إلا أنه جاء بطريقة أخرى، وآلية مختلفة لعرض الصورة تتمثل في المباشرة الاشتراطية إن صح التعبير أي الحديث بـ ”لو“ وذلك للإشارة إلى أن شخصا بهمته يمتلك الماء الزلال، وبسلاحه لو وقف أمام سد ذي القرنين لتخطاه وتجاوزه، ولو أن أهدافه تقتضي صعود المجرة والوصول لها، إن شخصا بهذه القدرة لخليق بالتقدير، والاحترام.. لقد أراد الشاعر أن يوصل الصورة إلى المتلقي عن عظمة العباس بن علي الذي مع ما يملك من قدرات وعزم وشجاعة فهو أيضا مثل السحابة التي قد تنزل المطر تارة، وقد تجلب التراب والحجارة على أعدائها.
إن الشاعر في حديثه عن شجاعة العباس بن علي ليضعنا في دائرة الحيرة والدهشة بكل ما تعنيان من معنى، ومن يقف أمام هذه الأبيات قد يصاب بالتيه، فتارة ينتقل إلى نهر عذب، ومنه إلى المجرة، ومنه إلى الصحراء وحروب العرب السابقة، ومن الصحراء إلى حقل وسحب ومطر وزرع وشجر، وأخال أن الهدف من ذلك هو تكاملية الشخصية لدى أبي الفضل، ويصدق بذلك وصف الإمام السجاد لعمه العباس حينما قال بأني عمه ”نافذ البصيرة صلب الإيمان“، فالعباس عالم متكامل بذاته.
ثم يمضي في وصفه، منتقلا في ربوع الطبيعة فيقول بأنه:
بطل إذا ركب المطهم خلته *** جبلا أشم يخف فيه مطهم
قسما بصارمه الصقيل وإنني *** في غير صاعقة السما لا أقسم
لولا القضا لمحى الوجود بسيفه *** والله يقضي ما يشاء ويحكم
إن أبا الفضل العباس أشبه بجبل أشم ”أي طويل ذي ارتفاع“ يتحرك وقد امتطى خيلا أصيلا جميلا ”مطهما“، فهو هنا يشير إلى بعض الصفات الجسمية للعباس وهو طويل القامة جميل الوجه، لكنه في الوقت نفسه ذو سرعة وفروسية كأنه ”جبل على خيل“، فهل هناك صورة أجمل من هذا الوصف، في مدح القوة والخفة والسرعة في آن واحد، وما هذا الخيل الذي يحمل جبلا؟
بعدها يصل إلى أبلغ الأوصاف التي نعت بها أبو الفضل العباس وهي أنه ”صاعقة السماء“ التي يقسم به الناس، ولولا قضاء الله لما ترك في الوجود شيئا، ولكن هي قدرة الله.
إن الشاعر أراد قول حقيقة بأن أبا الفضل العباس وبكل قدراته يبقى أقل وأقل وأقل من قدرة الله، الذي شاء له مصيرا وهو الشهادة، فهو بصارمه الحاد، وهو أيضا صاعقة السماء، يخضع لقدرة الله، إن شاء أنزلها في الوقت الذي يحدده سبحانه، فقاتل ببسالة، إلى أن نال مصيره المحتوم.. ولكن كيف كان وصار هذا المصير؟
إن المأساة صورة أخرى من حياة أبي الفضل العباس، فماذا جرى له بعد تلك المواقف البطولية:
حسمت يديه المرهفات وأنه *** وحسامه من حدهن لأحسم
فقد قطعت يديه المرهفات ”السيوف القواطع“، رغم أن سيفه أحد منها وأشد حسما، بمعنى أن قاتلي العباس ليسوا بأقوى منه، وليسوا بأشجع منه، وليسوا بأعلى همة وقوة منه، ولكنه أشبه بأسد قلّمت أظفاره، فهل يستطيع أن يصول، وهل يستطيع على المواجهة، ويحدث في هذه الحياة أن يفتك ”العصفور بالصقر“، إذ هوى ذلك القوي الشديد
فغدى يهم بأن يصول فلم يطق *** كالليث إذ أطرافه تتقلم
لقد أراد سلام الله عليه أن يصول، لكن قدراته تراجعت، فهو مثل الأسد الليث إذا قطعت أطرافه، وتلك مأساة كبيرة أن يملك شخصا الهمة والشجاعة، ولكن يفتقد الإمكانية، فشجاعة أبي الفضل لا خلاف عليها، ولكن ماذا تجدي الشجاعة وقد قطعت اليدان في معركة الكرامة.. إن الألم النفسي الذي يعانيه القوي أشد حينما يجد نفسه في موقع لا يستطيع أن يفعل شيئا، ولا يستطيع حتى الدفاع عن نفسه.
لذلك:
أمن الردى من كان يحذر بطشه.. أمن البغاث إذا أصيب القشعم
فكل أولئك الجبناء الضعفاء باتوا في وضع الآمنين، فهم الذين كانوا يحذرون بطشه وسطوته وصولاته، والآن بات ذلك البطل في وضع ”العاجز“ غير القادر على الصولة والمواجهة، مثلهم مثل بعض الحشرات والطيور الصغيرة ”البغاث“ التي تشعر بالأمن حين يسقط الضبع ”القشعم“، فيحق لها أن تعيش وتسرح وتمرح، فمن يفتك بها بات في وضع بعيد عن وضعه الطبيعي،
وهوى بجنب العلقمي فليته *** للشاربين به يذاق العلقم
فقد خرّ بقرب نهر العلقمي وهو اسم لنهر الفرات، ويتمنى الشاعر لو صار هذا الماء العذب مرا مثل مرارة العلقم، وهنا جناس ناقص أيضا. تصور المأساة التي لا تكمن لدى العباس ليس في مصيبته وما جرى له فقط، وإنما ما سيجري بعد سقوطه ووفاته،
فمشى لمصرعه الحسين وطرفه *** بين الخيام وبينهم متقسم
لقد كان الحسين محاصرا من قبل أعدائه، وكانت عائلته في حمايته، وحينما ذهب إلى مصرع أخيه، وهو آخر من قضى من بين أصحابه وأهل بيته، كان يمشي على حذر، وطرفه بين الخيام وبين أخيه متقسم، تارة هنا، وتارة هناك.. فماذا وجد الحسين:
ألفاه محجوب الجمال كأنه *** بدر بمنحطم الوشيج ملثم
لقد كان العباس يطلق عليه قمر بني هاشم لما يملكه من جمال وحسن، لكنه حينما سقط تفاجأ الحسين بما جرى لذلك الجمال، إذ حجب ذلك القمر، بل خسف وجده بدرا لكنه ملثم ببعض أنواع القصب،
فأكب منحنيا عليه ودمعه *** صبغ البسيط كأنما هو عندم
قد رام يلثمه فلم ير موضعا *** لم يدمه عض السلاح فيلثم
نادى وقد ملأ البوادي صيحة *** صم الصخور لهوله تتألم
ويمضي الشاعر في نهاية هذه القصيدة ليصف الجانب المأساوي الذي طال العباس، وما جرى لجيش الحسين جراء تلك المصيبة، والتي تتمثل في فقدان الأخ لأخيه، فقد بدا الضعف والانحناء على الحسين حينما سقط أخوه أبو الفضل، الذي طالته السيوف والرماح لدرجة أن أخاه أراد أن يلثمه فلم ير موضعا لم تصبه ضربة سيف أو طعنة رمح، فما كان منه إلا أن صاح بأعلى صوته وبحالة من الحزن التي تتألم له الصخور وتستجيب له الكائنات.
إن الشاعر أراد تصوير المشهد، بعد سقوط أبي الفضل العباس، ففي البداية شبه دموع الحسين بأنه نهر ماء، ثم انطق الصخور وجعلها تتألم لصياحه وحزنه، وفي الوقت نفسه أراد تصوير حال العباس فلم يجد أبلغ أن الحسين لم يستطع أن يقبل أخاه الذي أدمته الجراحات ولم يجد موضعا في جسدا لفمه كي يقبله في إشارة إلى كثرة
أما الوسيلة الأخرى التي هي أشد مرارة وأبلغ لإيصال حالة الحزن هو إنطاق الحسين، وعرض حالة العتاب بينه وبين أخيه، فالحسين صار يتحدث مع أخيه يذكره بعدة أمور أبرزها حال العائلة من بعده، وحاله في هذه المعركة،
أأخي يهنيك النعيم ولم أخل *** ترضى بأن أرزى وأنت منعم
أأخي من يحمي بنات محمد *** إن صرن يستر حمن من لا يرحم
ما خلت بعدك أن تشل سواعدي *** وتكف باصرتي وظهري يقصم
لسواك يلطم بالأكف وهذه *** بيض الضبا لك في جبيني تلطم
ما بين مصرعك الفظيع ومصرعي *** إلا كما دعوك قبل وتنعم
هذا حسامك من يذب به العدا *** ولواك هذا من به يتقد م
هونت يابن أبي مصارع فتيتي *** والجرح يسكنه الذي هو آلم
يا مالكا صدر الشريعة إنني *** لقليل في بكاك متمم
إن هذا المقطع لهو قمة المأساة، وقمة الإبداع الأدبي الذي صوّرها، إذ تخلى الشاعر عن نفسه، وصار يتحدث باسم الإمام الحسين، الذي بات يخاطب جثة أخيه، وهي قمة المأساة أن شخصا يخاطب آخر، ولا يرد عليه جوابا، فالحسين يقول لأخيه إنك بموتك قد ارتحت من هم الدنيا وصرت إلى نعيم الخلد، ولكنني أذكرك بإخوتنا أهل ترضى أن تعيش هنيئا وتترك أخاك إلى الرزايا والمصائب، تلك ليست من عوائدك ولا من سيرتك معي.. ثم أنت المحامي والكفيل لهذه العائلة، إذا أنت ذهبت ما سيكون مصير هذه العائلة، في ظل رعاية عصابة ظالمة معادية.. فهذه صورة من المأساة أن أخا يفارق أخاه، وأي أخ هو كبش الكتيبة وحامل اللواء وحامي الضعينة.
ثم يؤكد له بأنه بعد هذا المصرع قد انتهى وانكسر ظهره، وشلت سواعده، وبدا شبح القتل يطل عليه، فهذه السيوف تستعد لتنال من جسده، كما نالت من جسد أخيه.. فما بين مصرع الاثنين فترة قليلة من الوقت.
ثم يتذكر الإمام الحسين العباس وأغراضه مثل سيف واللواء الذي كان يحمله، فبعد الموت من الذي سوف يتقلد هذا السيف، ومن سوف يرفع اللواء، ويخلص إلى القول بأن جرحك هو الأعظم، وموتك قد هوّن على فراق باقي أصحابي وأهل بيتي..
تلك هي قصيدة وجه الصباح، التي ابتدأت بمعاناة ذاتية لتنتهي بمعاناة عامة وهي وحدة الحسين وغربته ومظلوميته، التي تلهب الأحاسيس وتنهض الهمم. هذه القصيدة التي حاولت قراءتها والوصول إلى كنهها وأتمنى أن أكون قد وفقت لذلك. خلاصتها أنها تقدس المبدأ والشجاعة والتفاني في سبيل ذلك، وترصد الظلم والمعاناة التي يواجهها الأحرار مع مناوئيهم