آخر تحديث: 31 / 10 / 2024م - 11:58 م

وجه الصباح علي ليل مظلم «1»

سلمان محمد العيد

ربما كان من أولى مقررات من يتعاطى الخطابة وصعود المنبر الحسيني هو أن يكون على معرفة بقصيدة ”وجه الصباح علي ليل مظلم“ التي باتت كأنما هي مثل يتداوله كل حسيني وكل خطيب وكل مستمع، فهي قصيدة يقرأ الجزء الأول منها في اليوم الثاني أو الثالث من شهر محرم الحرام.. والجزء الأخير منها يقرأ يوم السابع، لأنه مخصص لواقعة العباس بن علي.

هذه القصيدة لو وقفنا عندها فهي تركز في الناحية المعنوية على الشجاعة التي اتسم بها الحسين وأصحابه، واتخذت وسائل الانتقال من المألوف إلى الخيال لتقريب الصورة وإيصال المعنى، ليحكي ملحمة الحسين وقصته وشجاعته في مقابل الطرف الآخر، ويمكننا تقسيم القصيدة التي سارت وفق نسق متسلسل كالتالي:

أولا: إن المعاناة التي تعيشها الأمم تعود في أحد أسبابه إلى غياب العدالة الاجتماعية، والتي تتجلى في الاستبداد السياسي، والانحراف العقائدي.

ثانيا: إن الموقف من هذا الانحراف السياسي يفرز طبقتين في المجتمع، طبقة طفيلية تتفاعل مع الحاكم، وتؤيده في انحرافه، وطبقة أخرى تعلن الثورة، وثورتها تتم على اتجاهين أيضا على ذاتها وما يحيط بها، وثورة على مصدر ذلك الانحراف.

ثالثا: إن مواجهة هذا الانحراف يتطلب في الغالب صفات معينة ينبغي أن تتصف بها النخبة أبرزها الشجاعة والصبر.

رابعا: عرض نتائج المعركة، التي وإن انتهت بالغلبة للباطل، إلا أنها على التاريخ أعطت الغلبة لقيم البطولة والشجاعة.

على أن كل ذلك التسلسل تم بصور أدبية متنوعة، لدرجة لم يخل بيت من القصيدة من لمحة أدبية تستحق التوقف، فيمكن القول بأننا أمام مقطوعة أدبية رائعة، من ناحية اللغة، جميلة من ناحية الصور الفنية، لدرجة أن من يقرأها يخرج بحصيلة قلما تتوافر في قصيدة أخرى

المعاناة الشاملة:

يبدأ السيد جعفر الحلي قصيدته ذائعة الصيت بالتعبير الذاتي، وإظهار ما يعيشه من معاناة، ليؤكد معاناة كل شيعي ومحب للإمام الحسين ، فهو ”يرحمه الله“ خير معبر عن الوجدان الشيعي، إذ يقول بأن الحزن قد تمكّن منه، وأحال حياته إلى شيء من الأسى الدائم، والحزن المستمر، لدرجة أن وجه الصباح الذي هو عنوان الضياء والفرح والتفاؤل بات ليلا مظلما، في إشارة إلى الحزن، الذي بات هو السمة الغالبة عليه، لدرجة ان هناك الفرح بات محرّما..

ويشهد بهذه الحقيقة، ويؤكدها الحالة النفسية التي يعيشها، فهو لا ينال لذة الوسن، ولا طعم الرقاد، مثل باقي الناس، ففي وقت يطيب للناس رقادهم وسهادهم وسعادتهم هو على النقيض من ذلك فهو يسهر ولا يصل النوم إلى عينيه.

يقول الشاعر:

وجه الصباح علي ليل ٌ مظلم ُ *** وربيع أيامي علي َّ محرم

والليل يشهد لي بأني ساهر *** إن طاب للناس الرقاد فهوموا

بي قرحة لو أنها بيلملم *** نسفت جوانبه وساخ يلملم ُ

قلقا تقلبني الهموم بمضجعي *** ويغور فكري في الزمان ويتهم

إن ثمة معاناة حقيقية، يصفها الحلي بوسائل فنية، يمكن أن نسلط الضوء عليها من خلال التوقف عن النقاط التالية:

أولا: التعبير بوسيلة ”الضد بالضد“ أو ما تعارف عليه لدى علماء البلاغة بالطباق والمقابلة، أي إيراد النقيضين، للوصول إلى المعنى، ف ”النهار“ تحول إلى نقيضه ”الليل“، و”السهر“ مقابل ”الرقاد“، وفي الضمن المعاناة والتعب والجهد، مقابل الراحة والدعة.. كل ذلك بسبب الحزن، فهو حزين جدا وقت الربيع الذي يفترض أن يكون موسم فرح، بل أن الفرح ”محرّم“ عليه، وهو ساهر لا ينال لذة الرقاد وقت الذي يطيب للناس الرقاد وتهتز رؤوسهم من النعاس، فهم بعد أن طابت رقدتهم ”هوّموا“، أي اهتزت رؤوسهم من النعاس، ما يعكس رغبتهم في النوم مرة أخرى، بينما هو لا يصل إلى ذلك الوضع، فهو رفيق الليل والسهر والتعب والألم.

ثانيا: إنطاق الحياة الجامدة، وجعلها تتحدث وتحكي الصورة التي يعانيها الشاعر، وتلك هي أقصى درجات البلاغة، التي تتم من خلال التشبيه ”وما يقتضيه التشبيه من التحول إلى تعبيرات مجازية، واستعارة تصريحية وأخرى مكنية“، فبات للصباح وجه يطل به على الناس، لكنه حزين، والليل بات يتحدث ويشهد وكأنه قد دخل محاكمة علنية، فقد شبه الشاعر الليل والنهار وكأنهما اثنان من البشر، فالأول تجهم وأبدى حزنا، والثاني واصل شهادته وأكد بل وبصم على الوضع الذي يعيشه شاعرنا من معاناة حقيقية، وأما الهموم فقد سيطرت عليه وصارت تقلبه كيفما شاءت، وقد أحكمت قبضتها عليه..

لله در شاعرنا المرحوم كيف جعل من الهموم والليل والنهار كائنات حية تتحدث وتعبر عن شعورها عن المأساة التي يعاني منها، وكيف أن ”قرحة“ تتمكن من نسف الجبل، في إشارة لعظم وكبر المعاناة والهموم.

ثالثا: الإشارة إلى أن الحزن الذي ألمّ به، ليس ذاتيا فقط، بل هو حزن جمعي حتى الكائنات وأبرزها الليل والنهار باتا متضامنين معه، وهي تحمل معه الحزن والأسى.. بدليل أن الألم الذاتي والذي عبّر عنه بكلمة ”قرحة“ لشدتها لو وضعت على جبل والذي يطلق عليه ”يلملم“ لنسفت جوانبه وساخ، كونه لا يتحمل تلك الآلام.

رابعا: الانتقال من عالم المألوف إلى عالم آخر.. إذ لعل سائلا يسأل، عن الذي جعل هذا الوضع، فصاحبها مصاب بأزمة تتجلى في ”الحزن، والسهر، والهم الداخلي، والألم“ وكأنما أشار إلى أن مأساته ذات شقين منها ما هو بالذات الداخلية ”قرحة وهم، وقلق“ ومنها ما هو خارجي ”سهر وألم“، يضاف إلى ذلك معاناة إضافية تتمثل في العبارة التي نصها ”ويغور فكري في الزمان ويتهم“ فكلمة ”الغور“ حسب المعاجم اللغوية جاءت من الغار، أي التعمق، والدخول في أماكن تقتضي الاختفاء، فغارت العين أي اختفى ماؤها، وغارت الشمس أي غربت، والغار هو المكان المظلم العميق، فالشاعر أراد القول بأن القلق الذي انتابه نقله إلى عالم آخر جعله يفكر في هذا الزمان، ثم ”يتهم“ هـ أي يشك فيه ويلقي عليه باللائمة.. وتلك صورة أخرى من صور الشاعر في التعبير عن حزنه وألمه، الذي تجلى في أن فكره بات يتساءل ويشك ويتهم ويبحث عن سر هذه الأزمة، لأنه قلق ويبحث عن حل لتلك الأزمة.

الهلاك الشريف:

وتبعا لهذه المعاناة يتمنى شاعرنا لو كان قد لاقى حتفه في معركة ضارية، غير طبيعية، إنه يتمنى لكي يتخلص من هذه الهموم أن ينال الموت والهلاك، ولكن أي هلاك واي موت، أنه موت يأتي من كارثة، ويحدث في معركة دينية مبدئية، يقول:

من لي بيوم وغى يشب ضرامه *** ويشيب فود الطفل منه فيهرم

يلقي العجاج به الجران كأنه *** ليل وأطراف الأسنة أنجم

فعسى أنال من الترات مواضيا *** تسدى عليهن الدهور وتلحم

أوموتة بين الصفوف أحبها *** هي دين معشري الذين تقدموا

فهو في هذه الأبيات، وبعد أن أثبت أنه يعيش معاناة صعبة، لا يحتملها جبل، وهو يشك في كل شيء، وهنا يتمنى ويرجو لو يدخل معركة من نوع خاص أبرز صفاتها أنها غير طبيعية، في شدتها وضراوته

فهو يتمنى معركة إذا اشتعلت تحيل الأطفال إلى الهرم، لما تحمله من عجائب وغرائب،

وإن غبار هذه المعركة يحيل الحياة إلى ظلمة لا تلمع فيها إلا السيوف والرماح، وذلك في عبارة ”يلقى العجاج به الجران كأنه، ليل وأطراف الأسنة أنجم“، وربما في هذا البيت أورد ألفاظا تنطوي على شيء من الغرابة، لكنها في عصر شاعرنا الكريم ليست غريبة، بل هي متداولة، فالعجاج يقصد به ”الغبار التي تؤرثه الريح“، والجران هو ”جلدة تتحرك في باطن العنق، ويبدو أنها لسان المزمار“، فالشاعر يصور المعركة التي يراها حلا لمشكلته وأزمته ذات غبار غليظ لا يغطي البشر ويخنقهم، بل يحيل الحياة كلها إلى ظلام، ليس بها نجوم غير الأسنة اللامعة..

ومن هذه المعركة يتمنى الشاعر أن ينال الموت الشريف اوالهلاك التي يحقق النصر، فحينما يقول: ”"فعسى أنال من الترات مواضيا، تسدى عليهن الدهور وتلحم“ فهو يتمنى أن ينال من ”الترات“ والتي تعني القتال والغيظ في آن واحد، مواضيا وهي الخيول، فمن قتاله يريد دخول التاريخ، فيتمنى أن يحقق من هذه المعركة مجدا، مستمرا ”تسدي عليهن الدهور وتلحم“، وفي العبارة الأخيرة صورة فنية رائعة تتمثل في أن هناك مثلا عربيا قديما، ربما قل تداوله في الوقت الحاضر يقول ”ألحم ما أسديت“ بمعنى أتمم ما ابتدأته من إحسان، فهو عبّر عن هذا المثل بهذه الصيغة، أي أنه يتمنى أن يحقق مجدا مستمرا، يستكمل بعضه بعضا أي يكون مجدا تحكي عنه الأجيال، لذلك أورد كلمة ”الدهور“..

وإذا لم يكن من هذه المعركة تحقيق ذلك النصر المطلوب، فيرى ضرورة أن تنتهي المعركة بموتة شريفة، تنطلق من دين ومبدأ وعقيدة، وتلك هي الصورة الحقيقية والهدف الأساسي لكل من يدخل معركة أما أن يحقق مجدا دنيويا، أو مجدا أخرويا، أو بهما معا.

وفي هذا الشأن نرصد صورة للمعركة التي يتمنى أن يدخلها وهي ذات صفات:

1 - أنها معركة صعبة وخطيرة ”يشيب فود الطفل منها ويهرم“

2 - إنها معركة مستمرة ”تسدي عليهن الدهور وتلحم“

3 - إنها معركة ذات بعد مبدئي ”هي دين معشري الذين تقدموا“

الواقع المأزوم

وبعد أن أبدى قلقه، وشرح معاناته، وأمنيته في التخلص من ذلك، حدّد السبب الذي جعلته يعيش الهموم ويتمنى الموت فهو شبه المصدوم من الواقع، الذي يسير وفق معادلات خاطئة، فيقول بصورة تقترب من المعنى

ما خلت أن الدهر من عاداته *** تروى الكلاب به ويظمى الضيغم

ثم يمضي بشكل أوضح:

ويقدّم الأموي وهو مؤخر *** ويؤخر العلوي وهو مقدم

مثل ابن فاطمة يبيت مشردا *** ويزيد في لذاته متنعم

يرقى منابر أحمد متأمّرا *** في المسلمين وليس ينكر مسلم

ويضيق الدنيا على ابن محمد *** حتى تقاذفه الفضاء الأعظم

إن هذا الواقع، وبهذه الصورة، وبهذا التناقض الرهيب، أليس من حق الإنسان الغيور أن يتمنّى الموت، فهو يتأزم إذا وقف أمام معالم الحياة اليومية، وما جرى ويجري عليها من تجاوزات، التي تجعل الضيغم ”الأسد“ ضامئا عطشان، بينما الكلب وهو أقل منه مرتبة ومنزلة وقدرة وقوة يعيش فيها هانئا، ومثل ذلك تقديم الأموي المؤخر على العلوي المقدم، بينما يفترض أن يكون العكس، وكذلك تجد أن الحسين بكل ما يحمل من قيم علمية وأخلاقية ومعنوية يبيت مشرّدا بينما يعيش يزيد في لذاته متنعما، ويبالغ فوق ذلك بأن يرقى منابر رسول الله، ويطارد أبناءه ويقتلهم أيضا، والأدهى من ذلك أن من حوله لا ينكرون عليه خروجه ومروقه من الدين والأخلاق.

وبذلك اتضح لدينا مصدر تلك الأزمة، وسبب تلك المعاناة، التي تجعل الغيور المبدئي يعيش واقعا مأزوما، يتمنى الموت فيها، فالقصة تعود إلى سبب أساس هو غياب العدالة والتي تتجلى في عدة مظاهر:

تقديم المفضول على الفاضل، دون النظر إلى الكفاءة.

حدوث التفاوت في الحياة الاجتماعية بين الشقاء والتشرد من جهة والنعيم والرفاه من جهة أخرى ارتقاء منبر رسول الله من قبل من هو غير أهل لذلك والمعنى من كل ذلك يتمثل في أن غياب العدالة السياسية لدى الحاكم الأموي يزيد بن معاوية كان سبب المعاناة، زاد منها أن هناك قطاعا واسعا من الأمة قد صمت ولم يستنكر الظلم، إذا لم يشارك الظالم في ظلمه. وقد تم عرض هذه الحقيقة بصورة مباشرة وبعبارات واضحة، فالحاكم الظالم قابله خنوع وتراجع من المحكومين، رغم علمهم بما يحمله هذا الحاكم.

ولعل الشاعر أراد الإشارة إلى حقيقة وهي أن الاستبداد السياسي ”حكم يزيد“، والتراجع والخنوع المجتمعي ”وليس ينكر مسلم“، يؤدي إلى تأزم نفسي لدى كافة أفراد المجتمع، لذا وجدنا شاعرنا يؤكد أنه يعاني من قرحة وقلق وألم وسبب ذلك هو سيطرة هذا النظام الفاسد وعبثه بالمقدرات المقدسات، وماذا كانت النتيجة؟

هي المطاردة السياسية للأحرار مثل الحسين وأهل بيته. لذلك قال شاعرنا:

خرج الحسين من المدينة *** خائفا كخروج موسى خائفا يتكتم

وقد انجلى عن مكة وهو ابنها *** وبه تشرفت الحطيم وزمزم

لم يدر أين يريح بدن ركابه *** فكأنما المأوى عليه محرم

وربما كان هناك فرق كبير بين الأبيات التي استفتح بها قصيدته، وهذه والتي غلب عليها المباشرة في العرض، والابتعاد نوعا ما عن الصور والاخيلة، وحتى التشبيهات، وقد اكتفى بعرض النتيجة، محافظا على الصورة والتعبيرات القوية، ومركزا على حالة التناقض التي تنشأ عادة عن غياب العدالة، وسيطرة الاستبداد السياسي، إذ تأتي على هيئة تناقضات،

إن الشاعر اعتمد أسلوبا تمهيديا في عرضه إلى القصة، في أبياته، فبعد عرض الأزمة والمشكلة ومظاهرها، ينطلق إلى عرض الاسباب وبشكل يميل إلى الغموض، ثم يتدرج إلى مأساة الإمام الحسين وبشيء من العمومية، ثم ينتقل إلى التخصيص، فمن الدهر وجوره، ثم تشرّد الحسين ورفاهية يزيد، ثم إلى رقيه وتحكمه في الحكومة التي أسسها النبي ﷺ، لينتقل إلى النتائج الناجمة عن كل ذلك وهي التضييق على الحسين وهو ابن رسول الله ﷺ، ويمضي في تفاصيل التضييق، ومعالمه، وأبرزها الخوف والهجرة عن موطنه وموطن جده..

ولم يخل هذا المقطع من صور بلاغية جميلة، غلب عليها المباشرة وعرض الصورة كما هي مع إضافة لمسات تقرّب المعنى للمتلقي فالحسين ابن رسول الله ﷺ بات مشردا، وخرج من المدينة كما خرج موسى خوفا من سطوة جنود فرعون، هذا الحسين ابن مكة وبه تتشرف البقاع المقدسة يخرج منها خائفا، تلك مصدر العجب ومبعث الألم لدى الشاعر.

شجاعة الموقف

بعد هذه الغربة، وهذا التشرّد، وهذه المعاناة التي عاشها أمامنا الحسين أعلن الثورة، وأثبت شجاعة لا مثيل لها، مع جماعة شجعان، وفي الحقيقة أن هذا المقطع، يجدر بنا التوقف أمام كل بيت، لأنه وفي كل بيت نلحظ صورة فنية بلاغية تختلف عن التي قبلها، تؤكد الحقيقة إن الثائر مثل الإمام الحسين لا يتفاعل مع ثورته إلا من هم على شاكلته في الشجاعة والإباء، ولا ينتصر لثورته الجبناء الضعفاء، كذلك لا ينتصر لها بعد الثورة إلا من يحمل المبادئ نفسها، وتلك أبرز قيم ثورة الحسين وهي الشجاعة والتحدي ومقاومة الفساد الأخلاقي والسياسي، فيقول الشاعر في وصف بداية الثورة:

فمضت تأم به العراق نجائب *** مثل النعام به تخب وترسم

ففي هذا البيت هناك كلمة ”تأم“، بمعنى اتبع، وقد جاءت بدون تاء التأنيث، رغم أن الفاعل ”نجائب“ منسجمة ضمن القاعدة النحوية المعروفة وهي إذا فصل بين الفعل ”تأم“ والفاعل المؤنث المجازي مثل نجائب، لا يجب ايراد تاء التأنيث، ولو جاء الفعل بدونها فهو تعبير صحيح من الناحية النحوية، لذلك فشاعرنا جاء وفق القاعدة النحوية، وانسجاما مع وزن الشعر من الناحية العروضية كونه من البحر الكامل ”متفاعلن متفاعلن متفاعلن“.. مع ملاحظة أن هناك من يوردها ”تؤم“ كفعل مضارع مبني للمجهول، ولكن يبدو لي والله العالم أن الشاعر أراد التعبير بالماضي فجاءت كلمة ”تأم“ والتي يقصد به المتابعة.. وكلمة ”نجائب“ وهي الكرام، وحينما يقال نجائب الإبل أي أفاضلها، فأراد الشاعر أن يقول بأن الإمام بعد أن رأى الواقع السيء، انطلق إلى العراق مع نخبة المجتمع، وخير أهل الأرض، الذين اتبعوه حذوالقدة بالقدة، وشبه متابعتهم ب: ”مثل النعام به تخب وترسم“، أي أنها ”تخب“ أي تعدو، و”ترسم“ أي تترك أثرا جراء مشيها. وهنا تشبيه اتباع أصحاب الحسين أمامهم مثل حركة النعام تمشي سريعا لكنها تترك أثرا، وهي الحركة تتم بسرعة النعام وأثرها لكنها بأمر القائد لذلك قال ”به“..

وهنا نرصد قيمة فكرية ومعنوية أيضا من هذا التعبير، وهي أن أتباع الحسين حينما ساروا خلف قائدهم، بتلك الصورة التاريخية، كانوا ”سراعا“، وسرعتهم لم تأت بغير علم، ولم تكن كما يقال كل شيء يأتي سريعا ويذهب سريعا، وإنما جاؤوا بسرعة وتركوا أثرا مرسوما في جبين التاريخ، سرعتهم كسرعة النعام، وأثرهم مثل أثره الغائص في الأرض، ثم يمضي في وصف صحابة الحسين بقوله:

متعطفات كالقسي موائلا *** وإذا رتمت فكأنما هي أسهم

ولأنه ذكر كلمة ”نجائب“ و”النعام“ فهو يواصل وصفها فيقول بأنها ”متعطفات كالقسي“ أي أنها ناعمة مثل الكتان المخلوط بالحرير في حال بقائها مسالمة هادئة، لكنها إذا ”رتمت“ أي دقت وكسرت فهي مثل السهام في قسوتها وقوّتها.

صحيح أن الشاعر أراد وصف الجمال والخيول في هذا المجال، جريا على عادة شعراء العصور القديمة، خصوصا ما قبل الإسلام، لكن يمكننا بكل سهولة أن ننقل ذلك إلى وصف أصحاب الحسين، فالخيول بخياليها.. أليس كذلك؟

وفي وصف شجاعة أصحاب الحسين أيضا يقول الحلي:

حفته خير عصابة مضرية *** كالبدر حين تحف فيه الأنجم

ركب حجازيون بين رحالهم *** تسري المنايا أنجدوا أو اتهموا

يحدون في هزج التلاوة عيسهم *** والكل في تسبيحه يترنم

ففي هذا المقطع نقف عن وصف أصحاب الحسين، إذ لم يكتف شاعرنا بالقول المباشر أنهم شجعان وأبطال، بل لم يقل هذه العبارة، بألفاظها ربما رأى أنها لا تكفي في وصفهم، فهم من أصول عربية عريقة، بل هم خير الأصول، وجاء إيراد هذه الصفة، لا لغرض عنصري بالتأكيد، وإنما إذا أراد الطرف الآخر التفاخر بهذا الشأن يقال له بأن الذي تواجهه ليس من أراذل البشر، ولا من رعاع العرب، ومن الناحية الشكلية فهم ذوو بشرة حسناء، وهم أيضا من الحجاز، لكن صفتهم هي الشجاعة، أينما حلوا في نجد وتهامة، وفي الوقت نفسه فهم متدينون وأهل قراءة وعلم، فلو تفاخر الطرف الآخر بأي شيء من الصفات، فهم يتفوقون بها.

ولا يخلو هذا المقطع من صور فنية بلاغية، فأصحاب الحسين كالنجوم والإمام الحسين بينهم كالبدر، وهذا من أنواع التشبيه، بل هو أشهر أنواع التشبيه الكامل الذي حضرت فيه كل أركان التشبيه ”المشبه والمشبه به وأداة الشبه“.. لكن شاعرنا يتخلى في البيت الذي بعده عن اعتماد التشبيه البليغ ليلجأ إلى الاستعارة وهي التعبير المجازي الذي يعتمد على التشبيه، فيحذف بعض عناصره، وقد يورد بعض لوازمه فهو أراد وصفهم بالشجاعة، وأراد تشبيه المنايا مثل أي كائن حي يتحرك، لكنه أورد كلمة ”تسري“ فأوصلت المعنى.. ثم يواصل وصفهم بأنهم يحركون جمالهم بالحداء المعتمد على التلاوة والتسبيح الجميل والتلاوة المرتلة، وبذلك فهم أهل تدين، وبذلك نصل إلى أنهم ”اصول شريفة، ووجوه وسيمة جميلة، وتدين عميق، وشجاعة منقطعة النظير“ وهل هناك مفاخرة ومصادر للفخر بين بني البشر غير الأصل والدين والشجاعة والحسن.. لاحظ لم يتطرق إلى الثروة والمال والأملاك لأنها لا تعطي معنى في الفخر دائما.

أسلحة.. هجومية ودفاعية

بعد ذلك ينتقل في وصف ما يحمله الحسين وأصحابه من أسلحة، فيقول:

متقلدين صوارما هندية *** من عزمهم طبعت فليس تكهم

بيض الصفاح كأنهن صحائف *** فيها الحمام معنون ومترجم

إن أبرقت رعدت فرائص كل ذي *** بأس وأم من جوانبه الدم

ويقوّمون عواليا خطية *** تتقاعد الأبطال حن تقوم

أطرافها حمر تزين به كما *** قد زين بالكف الخضيبة معصم

إن هز كل منهم ليزينه *** بيديه ساب كما يسيب الأرقم

إننا في هذا المقطع أمام حقيقة، سبقت الإشارة إليها وهي أن الخيل بخيّالها، والسلاح أيضا بحامله، فليس كل سلاح قاطع باتر يكون بيد شجاع، فقد يقع بيد جبان رعديد، ضعيف، وقد يقع السلاح بيد جاهل متهور، وقد يقع السلاح من أجل التفاخر والزينة فقط، بينما هذه الصورام والقواطع والرماح لدى أصحاب الحسين لها معان مختلفة.

فالصوارم الهندية التي بيد أصحاب الحسين ”من عزمهم طبعت فليس تكهم“، أي أن هذه الصوارم المشهورة عند العرب بحدة قطعها وسرعة إنجازها لفعل البتر والذبح، باتت مطبوعة بعزم أنصار الحسين وشدة بأسهم، فهي ”ليس تكهم“ أي لا تتسم بالبطء عن النصرة الحرب والقتال.

وبيض الصفاح أي السيوف اللامعة كأنها ”صحائف“ ودفاتر كتب عليها الموت بالحقيقة أو بالترجمة.. وهنا يجمع شاعرنا الكبير بين فنين من فنون البلاغة، بين التشبيه ”السيوف وكأنها دفاتر وكتب“ والجناس الناقص ”الصفاح والصحائف“، ولعله استفاد من أبي تمام ”بيض الصفائح لا سود الصحائف“، لكنه لم يأخذ الصورة بذاتها، وإنما أتى بصورة خاصة به، رغم التقائهما في الجميع بين الفنين.

وإذا أبرقت هذه الصفائح، أحدثت الرعب لدى الشجعان ذوي البأس، وأمطر من جوانبه الدم. ولم يقل شاعرنا ”تقاطر الدم“ كما قال الشاعر القديم ”وسيوفنا يقطرن بالدم“، بينما قال ”وأمطر“ أي أن الدم هنا غزير، وله سمة خاصة أيضا، لا ينال دم الجبناء وإنما دم الشجعان.. وهنا أيضا صورة أخرى أن هذا السيوف تبرق، وفي حال إبراقها ”ترعد قلوب الشجعان“ ذوي البأس، وربما أشار إلى حقيقة فلكية أن الرعد والبرق يحدثان في وقت واحد، ولكن الضوء أسرع من الصوت، فيصلنا الضوء ثم يأتي الصوت، فالبرق يصدر ثم يحدث الرعد في إشارة إلى الخوف والرعدة.

وأما رماحهم الخطية، فإذا قوّموا رؤوسها، تتقاعد الأبطال أمامها، ولعلها إشارة أخرى إلى أن أنصار الحسين يلحقون الرعب بالأعداء بأقل جهد، فبمجرد إقامة رؤوس الرماح الخطية ”ويقوّمون عواليا خطية“ يحدث ما لا يتصور إذ ”تتقاعد الأبطال حين تقوّم“ لذلك صارت هذه الرماح ”أطرافها حمر تزين به كما قد زين بالكف الخضيبة معصم“، إشارة إلى كثرة الدماء والغزارة، وهي تتزيا وتتجمل بدماء الأعادي، وهنا ينقلنا الشاعر من الحرب إلى العرس، من الدماء والشجاعة إلى الخضاب والزواج والأنس، وربما أشار إلى سعادة هؤلاء بملاقاة الحتوف في سبيل المبدأ.

وبعد هذا السيل من التشبيهات والمجازات والخروج من عالم مألوف إلى عالم آخر، يخلص الشاعر إلى القول بأن كل أدوات الحرب من السيوف والرماح تزدان بيد هذا البطل، والسيف يفخر بصاحبه، ولذلك تجد فيها سرعة فهو ”الرمح والسيف“ يسيب ”أي يذهب مسرعا“ مثل الأرقم ”الثعبان الصغير“ في إشارة إلى خفة الحركة والمناورة، لا الجبن والرعدة والخوف. وهنا أيضا شبه سرعة نقل السيف من نحر إلى نحر كما ينتقل الثعبان الصغير من مكان إلى مكان.

وقبل الانتقال إلى المقطع الآخر، يمكننا التوقف عند واقع دقيق وصعب وصفه فالسيوف والرماح تارة تجدها في مدينة الحلي الشعرية ”بشرا تتعلم وتتطبع بأصحابها“، وتارة أخرى تجدها ”دفاتر وكتبا تستقبل العلوم بشتى اللغات“، وتارة ثالثة نراها ”عاصفة تنزل المطر وتحدث البرق والرعد“، وتارة رابعة هي ”كف تتزين بالخضاب“، وتارة خامسة لا نراها إلا أشبه بثعبان صغير يظهر بسرعة ويختفي بسرعة.. أليست مقدرة وكفاءة أدبية فريدة إنها مدرسة الحسين على الصعيد الأدبي.

أو بعد أن أنهى ذلك الوصف الرائع، وجد الشاعر نفسه قد قصّر في الوصف، فراح يضيف إلى الشعر بيتا، وإلى الجمال لمسة أخرى، وإلى المسك عنبرا، وربما والله أعلم أراد القول بأن الوصف يقصر عن وصف هؤلاء العصبة، ونتائج ما فعلوا وما سطروا من ملاحم فهم:

وتقمصوا زرد الدروع كأنه *** ماء به غض الصبا يتنسم

ولصبر أيوب الذي ادرعوا به *** من نسج داوود أشد وأحكم

في هذين البيتين نجد وصفا للدروع أي الوسائل الدفاعية التي يحملها أصحاب الحسين، فبعد أن انتهى من وصف وسائلهم الهجومية وهي الرماح والسيوف، نجد أن هناك وسائل الدفاع، هذه الوسائل تمثلت بـ ”الدروع“ التي هي من نوع خاص، فهي دروع قوية مستحكمة، تعد ملجأ لصاحبها، أن هذه الدروع تعتمد الصبر والصمود أولا، وفي الوقت نفسه تعتمد الصلابة المادية. إن صمود أصحاب الحسين وشعارهم ووسيلة دفاعهم هو التجلد مثل صبر النبي أيوب على ما ابتلاه ربه، وفي الوقت نفسه هي أشد من دروع النبي داوود، بيد أن أصحاب الحسين قد توافرت فيهم الشجاعة وتوفير مقومات المعركة

النتائج الكبيرة

بعد كل ذلك، وبعد أن انطلقت الثورة، على ذلك الواقع الظالم، ماذا جرى، وماذا حدث، وماذا كانت نتيجة المعركة بين الطرفين؟

يجيب بقوله:

نزلوا بحومة كربلا فتطلبت *** منهم عوائدها الطيور الحوم

وتباشر الوحش المثار أمامهم *** أن سوف يكثر شربه والمطعم

طمعت أمية حين قل عديدهم *** لطليقهم في الفتح أن يستسلموا

ورجوا مذلتهم فقلن رماحهم *** من دون ذلك أن تنال الأنجم

حتى إذا اشتبك النزال وصرحت *** صيد الرجال بما تجن وتكتم

لقد قيل بأن ”الحومة“ هي أشد مواضع المعركة، و”الحوّم“ هي الطيور التي تديم دوارها حول الماء، لذلك قيل من ”من حام حول الحمى أوشك أن يقع فيه“، فأصحاب الحسين نزلوا المعركة بكل ضراوة وشجاعة، تلك المعركة التي ملأوها بالدماء لكثرتها باتت مقصدا للطيور العطشى، وفي الوقت نفسه وفّروا وجبة دسمة للوحوش، من الدم كشراب لهم، ومن اللحم من الجثث الطازجة التي تميل لأكلها الذئاب والأسود والنمور، وكذلك الطيور الجوارح.. إنه استدل بالطير الحائم، والوحش المتوثب كناية عن كثرة القتلى.

بعد ذلك كان بنو أمية قد ظنوا أن كثرة عددهم وقلة عدد أنصار الحسين، سوف تكون مدعاة لاستسلام الأنصار، وإرسال البشرى إلى الطلقاء أبناء الطلقاء الذين لم ينسوا أن رسول الله ﷺ قد انتصر عليهم ماديا ومعنويا وأخلاقيا، فهو بعد معارك عديدة استطاع أن يلحق بهم الهزيمة، كافأهم بأن عفا عنهم، فصاروا سمة التاريخ وحديثه، وأرادوا تكرار القصة ليكسبوا مجدا يسدّ ذلك النقص الهائل لديهم، والعقدة المتأصلة، التي ما فتأ يكررها يزيد وابن زياد في كلمتهم المشهورة: ”يوم بيوم بدر“، لكن هذا الأمل لم يحصلوا عليه، إذ لم يستسلم أحد لهم، فلا الحسن ولا الحسين ولا أنصار الحسين.. فقد ”رجوا مذلتهم“ لكن ذلك بات أبعد عنهم من بعد النجم عن الأرض.

ولأن الحسين وأصحابه أعزاء كرماء دخلوا في معركة الكرامة مع عدوّهم واشتبكوا معهم، وبدل أن يستسلموا لعدوهم أظهروا له حقيقة فكرهم وما يجول في خواطرهم، وخلال اشتباك النزال جاء الرجال الصيد، والصيد هم الذين يرفعون رؤوسهم بفخر لتظهر الحقيقة، التي يحملونها وهي المبدأ، ف ”صرّحت صيد الرجال بما تجن وتكتم“، أي أنها صرحت بكل ما لديها من أفكار وخواطر، سواء الظاهرة المعلن عنها، أو المستورة المكتومة.

تلك وقفة مختصرة مع الجزء الأول من قصيدة ”وجه الصباح“، التي تعد من أبرز قصائد الشعر الحسيني التي قلما تجد شيعيا لا يحفظ منها بيتا على الأقل، ولا تجد خطيبا لا يعرف هذه القصيدة ولا يتعاطى معها كونها تحمل تلك المعاني الفذة، والصور الفنية الرائعة، التي تدل مرة أخرى على أن الأدب العربي بخير ما دام المنبر الحسيني قائما، وما دام الخطباء يتداولون الشعر الحسيني.. وإلى اللقاء مع الجزء الثاني من هذه القصيدة التي يتناول قصة أبي الفضل العباس.

التعقيبات المنشورة لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع
التعليقات 2
1
عبدالباري الدخيل
[ تاروت ]: 16 / 7 / 2024م - 9:57 ص
احسنتم استاذنا
2
محمود دعبل
[ الجشة ]: 22 / 7 / 2024م - 10:20 ص
مع ان الموضوع ادبي بامتياز الا أن بين ثناياه فوائد جمة تفوق ما يذكر في موضوعاتها الخاصة
شكرا لكم