تأملات في الملحمة الحسينية «زبدة المستوى الإيقاعي»
تناولنا في المقالات السابقة أن الشاعر المرحوم استفاد من نظام المربعات أو التربيع أو السمط في تأليف قصيدته على ثلاثة مستويات: التنويع في الضرب «التفعيلة الأخيرة من البيت»، وشكل القافية وعلاقتها بالمد أو اللين الذي يسبقها أو يتلوها، والتنويع في حرف الروي نفسه بما يحمله كل حرف من صفات صوتية أو نغمية.
والحقيقة أن القافية لا تعد جرسا موسيقيا ورنة إيقاعية في نهاية كل بيت فحسب، بل تتعداه إلى أنها حالة شعورية تختزن الحرف والرنة والإيقاع، ونظام المربعات في القصيدة التي بين أيدينا لعب التنويع في القوافي وشكلها والضرب «التفعيلة الأخيرة من البيت» دورا بارزا في الانتقال في المعنى ربما لم يقصده الشيخ المرحوم في القصيدة، ولكن قد يكون في اللاوعي راعى هذه التنويع الانتقال في المعنى.
على مستوى الضرب كم هو جميل ويتماشى مع المعنى بالتنويع في الضرب والقافية «الروي» معا في مثل المربعة «5» التي مطلعها: ”صبت الدنيا علينا حاصبا من شرها“. وهي مخاطبة الإمام الحسين لجده المصطفى ﷺ أنه طريد ويبث شكواه، نلاحظ انتقال الشاعر من فاعلات إلى فأعلن مع زيادة حروف القافية وانتقال القافية من الساكن إلى المكسور «شرها: الراء مكسورة، والهاء الوصل، والألف خروج» وهو ما يناسب شكواه على ما هو عليه.
ولكنه سرعان ما ينتقل إلى فاعلات في المربعتين التاليتين «6-7» والآتي مطالعهما: ”ضمني عندك يا جداه في هذا الضريح“ و”جد صفو العيش بعدك بالأكدار شيب“، وهو يناسب وضع الإمام في تمنيه أن يكون مع جده ﷺ، وشكواه مما ألم به من أمته. والملفت أن الشاعر أنهى المربعة ”فعلى من داخل القبر بكاء ونحيب - ونداء بافتجاع يا حبيبي يا حسين“، ليبدأ رد الجد ﷺ في المربعتين «8 - 9» ”أنت يا ريحانة القلب حقيق بالبلا“ والمربعة التالية ”ستذوق الموت ظلما ضاميا في كربلا“، والملاحظ أن الشاعر عاد للضرب «التفعيلة الأخيرة» فاعلن، وأختار حرف اللام في المربعتين وبعده ألف الوصل كأن الشاعر أرد أن يكون الكلام على لسان النبي ﷺ يحمل القافية نفسها، ويحمل الضرب نفسه. والنص مليء بالأمثلة التي تحوي هذا التنويع والانتقال الذي يتناسب مع المعنى.
على مستوى ثان لو تتبعنا في القافية الروي المكسور لرأينا انه ذروة فكرة ما، أو وصول المصاب إلى أعلى حد، وهو في 17 موضع من القصيدة وسأذكر ثلاثة أمثلة فقط، ويستطيع القارئ تتبع الباقي في القصيدة:
المثال الأول: المربعتان «16 - 17» مطلعهما: ”ههنا تنتزع الأرواح عن أجسادها“ - ”وبهذي تيتم الأزواج من أزواجها“، والمربعتان تصور وقوف الحسين في كربلاء وإخبار أصحابه بمقاتلهم فيها، ونلاحظ أن القافية زادت «ادها، اجها» في عدد الحروف: الألف ردف، وحرف الروي الدال في اولى والجيم في الثانية، الهاء وصل، ثم الألف الخروج. وزن الضرب فاعلن. ومن الممكن ملاحظة قرب الدال والجيم في المخارج وغالب الصفات.
المثال الثاني: المربعة «24» ومطلعها: ”أخت يا زينب أوصيك وصايا فاسمعي“، وفيها وصية الإمام الحسين للسيدة زينب ، ونلاحظ قوة حرف الروي «العين المسكورة»، في أداء المعنى وهذا الصوت «عي»، كأنه فعل أمر نهاية كل بيت هذا الاهتمام يؤكده البيت السابق للمربعة ”زينب الطهر بأمر وبنهي نافذين“، في تلقي وصية الإمام الحسين ، والضرب - آخر تفعيلة في البيت - انتقل وزنه إلى فاعلن بعد أن كان في المربعات السابقة فاعلات.
المثال الثالث: المربعات الثلاث المتتالية «48 - 49 - 50» مكسورة القافية التي مطلع كل مربعة فيها: ”وإذا بالشمر جاث فوق صدر الطاهرِ“، ”رأس من تقطع يا شمر بهذا الصارمِ“، ”ارفع الصارم عن نحر الإمام الواهبِ“، نلاحظ أن هذه الأبيات تكاد تكون في ذروة المصيبة، وهو منظر رؤية النساء لشمر وهو ينحر الإمام الحسين ، وهنا يمكن ملاحظة تتالي هذا الروي المسكور، وهو بالترتيب: الراء وهو حرف التكرير، الميم الحرف الأغن، الباء المنبور، والضرب «التفعيلة الأخيرة» على وزن «فأعلن». وشكل القافية «مطلقة مؤسسة».
من هنا نرى أن ذروة الفكرة أو المصاب أو التغيير في الملحمة كانت مربعاته ذات روي مكسور كأنه إشارة صوتية للتنبيه، وغالبا ما تكون تفعيلة الضرب فاعلن، وكذلك شكل القافية انقسم بين القافية المطلقة المؤسسة وهي الأكثر، والقافية المطلقة المجردة. وهي سبعة عشر مربعة، ذكرناها في المقال السابق.
وكما ذكرنا في المقال السابق أن السائد في الملحمة هو الساكنين عروضيا في القافية «حرف مد أو لين يتلوه حرف الروي الساكن»، وكأنه يدل على أن الحزن وصل لمداه في الحزن.
ولكي ننهي المستوى الإيقاعي سأورد بعض مواطن الإيقاع الداخلي في النص، مثل: ”كيف عاشوا يوم عاشورا وما ذاقو الحمام“، تكرار العين والالف والشين والواو عند نهاية التفيعلة، يعطي نمطا موسيقيا جميلا. ”كيف عاشو يوم عاشو“ نلاحظ نهاية التفعيلة الحروف نفسها ولكن بمعنى آخر.
نورد ثلاث مربعات كان فيها تكرار حروف نهاية البيت بطريقة إيقاعية ملفتة:
"فاتحا من مجلس التوديع للأحباب باب
فاحتسوا من ذلك التوديع للأوصاب صاب
موصي الأخت التي كانت لها الآداب داب
زينب الطهر بأمر وبنهي نافذين"
تكرار الحروف هذا يفعل نغما «باب باب، صاب صاب، داب داب»، ففي «باب باب» لعب تكرار الباء أربع مرات كانه ترنيمة لتفعيلة البيت فاعلات. وفي «صاب صاب» لعب دور الباء بالتتالي مع حرف الصفير الصاد، أما الأخيرة وهي «داب داب» فلعب الحرف القوي الدال لأن ما بعده وصية الإمام الحسين للسيدة زينب .
المربعتين التاليتين فهي التكرار، وقد غلب عليها نغمة الحماسة، وهو في وصف شجاعة الإمام : "بطل فرد من الجمع على الأبطال طال
أسد يفترس الأسد على الآجال جال
ماله غير إله العرش في الأهوال وال"
ونلاحظ أن تكرار الالف واللام والحرف الذي قبلها أعطى للبيت إيقاعا ونغما متسقا، خصوصا أن اللام ساكنة. والبيت الثاني تكرار حرف الصفير «السين» في ثلاثة كلمات متتالية كذلك اعطى نغما صوتيا.
"علة الإيجاد بالنفس على الأمجاد جاد
ما ونى قطٌ ولا عن عصبة الألحاد حاد
كم له فيهم سنانٌ خارقٌ الأكباد باد"
أظن أن التنوين في كلمة خارقٌ خطأ مطبعي لأنه يكسر وزن البيت، وكم هو جميل تكرار الألف والدال مع ما قبلها من يعطي إيقاعا ونغما وأنت تقلقل الدال الساكنة في النهاية!
وختاما نورد ملاحظة أن زمن القصيدة «الملحمة» التي عمرها أكثر من 200 سنة، أي عصر الانحطاط في الأدب، وأكثر ما يميزه هو توغل الشعراء فيه في المحسنات البديعية لدرجة التكلف الواضح واهتمام شعراء ذلك العصر بالبناء واللفظ أكثر من المعنى. ولكن حين نقرأ هذه القصيدة «الملحمة» نتعجب من تركيب الشيخ «رحمة الله عليه» بهذه الطريقة، حتى أن المحسنات تأتي غير متكلفة وإنما تأتي متسقة مع المعنى. بل أن التنويع الصوتي في «الضرب، وشكل القافية، حرف الروي في القافية»، متكاملا وكأنه يعطي للسامع جرسا آخر يثير الانتباه في انتقال المعنى.
،،، انتهى،،،