أقبل المحرم: المنابر.. أعواد أم قيم وأخلاق؟
اتخذها الجهلاء أعوادًا لمصالح شخصية وأداة تحريض على كراهية أعداء مصطنعين، انتقامًا وحسدًا لمواقف ونجاحات حققوها. لا يعنيهم ما وثق من حقائق، يتمسكون بقديم تراكمت أخطاؤه، بروايات استعطاف مبتورة السند، مضحوك بها لزمن لم يقع ما جاء فيها ولا بعضه. يعجزون عن اللحاق بالانفتاح المتوافق مع الدين وتعاليمه، أو يفتقرون لمعلومات واجب تناولها، وإن علموها لا يعملون بها حتى لا يُكشف هدفهم، فيسقطون من شاهق علاه حلما لسنوات على غير قواعد، ”أوهن من بيت العنكبوت“. ينالون من المصلحين بكلمات خادشة للحياء وعبارات سوقية، ”يمزقون المجتمع بدلًا من تضميد جراحه“.
أما العقلاء فجعلوا منها قيمًا وأخلاقًا، يثبتون حقًا وينفون باطلًا، ورأي الآخر عندهم بمكان. دأبهم التصحيح والتوضيح لمبهمات متداولة لقرون خلت. تباين بين الفريقين، ”كل إناء بما فيه ينضح“.
نذكر من تلك المنابر ثلاثة:
قناة الإعلام الإسلامية الوحيدة آنذاك، يبلغ الوحي قرآنًا ”فيه بيان للناس“، يخاطب القوميات مع تعدد لغاتهم وفوارق أفكارهم واختلاف عاداتهم، يدعمه الشعراء ”وقت الحاجة“ موضحين ما لا يُفهم. نُصب في غدير خم حين صدرت أوامر سماوية عاجلة، طُلب سرعة تبليغها قبل توجه الحجيج لبلدانهم. وفي هذا المقام، انبرى الشاعر المخضرم حسان بن ثابت منشدًا مبينًا، قائلًا والكل يسمع: ”يناديهم يوم الغدير نبيهم بخم واسمع بالنبي مناديًا“. يقابله ما أخبر تعالى به نبيه محمدًا ﷺ وصحبه المنتجبين: ﴿وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ﴾ [فصلت: آية 26].
تنوعت علومه دينية وتربوية وثقافية، علاه باب مدينة العلم أمير المؤمنين ”علي“ ، مجلس حكم وفتوى يقضي بين الخصوم، يجيب على المسائل العامة والخاصة والمستعصية. في مواجهته من يكفر وينادي بالاغتيال، إلى أن تمكن حملة الفكر الضال من الوصول لمبتغاهم عندما قُتل ”إمام المسلمين“ صائمًا فرضه ساجدًا في محراب صلاته عام 40 هجرية، وتباعًا كل بناء إلى جواره معول هدم.
انفردت به الشيعة بعد استشهاد الإمام الحسين عام 61 هجرية في كربلاء، ينظرون إليه بولاء، مرآة ذات أبعاد، فيه سعادة الدارين. [ولكن ما أشبه الليلة بالبارحة].
هناك: الذي أدى واجبه وأثراه بإخلاص، مادة علمية، بحوث، التزام بمبادئ، تنزيه عن فضول، لهم الشكر والتقدير.
وهنا:
«أ» الناقل التقليدي: لا يكلف نفسه بحثًا، لا يطور مستوى، يعتمد الماضي المكتوب بما هو. ”لا تشرب من مياه راكدة ربما تكون آسنة نتنة، تأكد ثم أقدم“. تثقف، ادرس لغة، التحق بدورات، تابع الجديد.
«ب» المسيء: حاقد على أفراد وجماعات، بصوت مجلجل، معادٍ من فوقه. اتق الله لقد أهنته، إنه شعار الطائفة، أخلاق أهل البيت . من دونه الأرواح بدلت، لا منصة تصفية حسابات الخصومة. أخطأت المفهوم، لملم ثيابك وارحل، ليس هذا لك بمكان.
«ج» المقصر: يركز على العبرة، تاركًا العبرة والمطلوب، الاثنتين معًا. أنت مثاب ومأجور لنعيك المبكي ولمستمعيك مثل ما لك وأكثر. لا شك أن الدمعة أبلغ رسالة لتوصيف وترجمة مصائب الواقعة الأليمة وتجسيدها، ولكن لا تنس الهدف وثمن التضحيات. افتح الرسالة واقرأ ما بداخلها، ”إنها مدرسة المذهب المتكاملة“، عليك تحقيق ما جاء فيها، صوب سهامك نحوها لتحرز الفوز والأجر مضاعفاً.
إنه يجمعنا ويؤلف بيننا، لا نتخذه سلاحًا يفرقنا وتشفيًا. متى أردنا الشهرة لذاتنا ومن أحببنا، أو التشهير بمن خالفنا وأبغضنا؟ والصادق يقول: «كونوا لنا زينًا ولا تكونوا علينا شينًا»، ومن قبله جده الحسين : ”ما خرج إلا لطلب الإصلاح“. ولكن صمت الآذان، قلنا للأول لا نفقه، وللثاني لا ندري. ”نَعيبُ زَمانَنا وَالعَيبُ فينا... وَما لِزَمانِنا عَيبٌ سِوانا“. لا نهرج بأسلوب احترافي حتى نقنع الحاضرين، الأحلام يقظة «الطفل والمراهق والبسيط يسهل اختراقهم فيصدقون».
علينا بالدليل الموصل الموثق، ”ما صح من التراث الروائي والتاريخي في كتبنا وعند غيرنا يكفي“، وأن يُسمح بالحوار حال الجهل بالشيء. لا نحتقر عبادًا آمنوا بربهم وجعل لهم من أمرهم رشدًا، لأنهم على غير ما نحب أو لا يوافقونا الرأي.
تعددت الوسائل، اللسن بتارة وأقلام مأجورة «ما يقال في السابق محاط بستار يغطيه الظلام، اليوم يحمله الأثير إلى كل مكان مسلطة عليه الأنوار»، مع غياب الحل الأمثل لما اختلف عليه، وفيه سُفهت قامات لها وزن في الوسط العلمي ومكانة. فُرقت جماعات كانت متآخية. خطباء الاعتدال مطالبون بغربلة المزيد لتطهيره وتنقيته من الغث والدخيل. من يحترم المبدأ يُحترم، وإن تأكد خطؤه يُحاجج بالدليل لإثبات ما نفاه، ”أو السكوت أسلم“، لا ضرر ولا ضرار. «نريده نظيفًا يزيل الضغائن، ينبذ الشعور بالأنا، يوحد الأطياف المتفرقة، لا يسمح بخلق الفتن والمشاحنات، مع الدعوة للتعايش السلمي بين الفرقاء في مذاهبهم ومرجعياتهم لتسود المحبة فيخالط الناس بعضهم بأمان. فإن فعلنا فقد حققنا ما دعا إليه سيد الشهداء .
أما ترك رقعة القيل تتسع مجاملة وخوفًا أو تغاضيًا، بمبرر الحفاظ على ما جاءنا واعتدناه اتباعًا لقاعدة ﴿إنا وجدنا آباءنا...﴾ ، ولا علاج لأمراضه المصاحبة، إلى متى؟ أما لهذا الداء من دواء؟ عجبي! أجيال الغد تسجل ما تركناه، تحاسبنا، تتساءل ولا مجيب. حينها تتحاشى حلقات الذكر، تشكك فيما تسمع ”مع صحته“. إن سكتنا على ما نحن عليه، حصوله قادم، وإن كنا له كارهين.