”ضائع في نفسه“... النسيان نعمة أم نقمة؟
يقولون نعمة النسيان أكبر ما من الله به على البشرية، فمن خلالها ننسى كل قبيح أو سيئ، أو كل ما كان يسبب لنا ألماً في يوم من الأيام، أو حتى المواقف الصغيرة الحمقاء التي نقوم بعملها دون تفكير، أو تتفلت منا في بعض الأحيان.
كم منا يتذكر ما قام به قبل سنة في مثل هذا اليوم، وبشرط أن يتذكر تفاصيل اليوم كله؟ قد نتذكر بعض الأحداث وبعض الكلمات وبعض المواقف، لكننا ننسى الكثير من التفاصيل فيما بينها، وهذا قبل سنة واحدة فقط، فما بالك بما مر عليه سنوات طوال عشر أو عشرين أو ربما أكثر؟
هنا يقف العقل في حيرة أحيانا فرحا بما أنساه الله إياه أو متمنيا ليته يتذكر بعض الأحداث، وكل هذه نعم على الإنسان فيها حكمة إلهية عظيمة، تخيل أنك تتذكر تفاصيل أحداث الأيام كلها منذ ولادتك إلى حين لحظتك الآن، أي عقل أو قلب سيتحمل المشاعر كلهم التي مررت بها في تلك الفترة؟
وتستشعر دقة الخالق تعالى في هذا التنظيم الذي لا ندرك حكمته الحقيقة ولو اجتهدنا، ولو نظرنا إلى الجانب الآخر من هذه النعمة، لمن سلب منهم هذا التنظيم، وباتوا في عشوائية الذاكرة، ودخلوا في عالم النسيان الطويل أو الخرف أو ما يسمونه في علم وظائف الأعضاء بـ ”ألزهايمر“
يقول الله تعالى ﴿وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْ لَا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ قَدِيرٌ﴾ [النحل: آية 70].
”كي لا يعلم بعد علم شيئا“ فبعد أن كان يتذكر وينسى ككل البشر وحياته مستقيمة أصبح لا يتذكر شيئا، بل لا يعلم ما تعلمه من السابق، ولا يفقه منه شيئا، وهنا تكمن حكمة أخرى من حكم الخالق - عز وجل - وأيضا لا ندرك حقيقتها الكاملة ولو اجتهدنا.
فما الحكمة من أن يعود الشخص إلى الوراء من سنين حياته، وما الحكمة في ألا يعد يعلم أي شيء مما تعلمه هل في ذلك رحمة له من قادم الأيام، أم فيه ابتلاء ”والمؤمنون مبتلون“ وفي الابتلاء شكر وحمد واعتلاء مراتب من الصبر والأيمان..
تقول السيدة ”أوغوستة ديتر“ شاكية لطبيبها ”شخصيتي تتسرب مني، أنا أفقد نفسي“
وكانت هذه العبارة أولى الخطوات التي بدأت في اكتشاف مرض الزهايمر على يد الدكتور ”ألواز ألتسهايمر“ الذي باشر حالة أوغوستيه التي ولدت في مدينة كاسل بألمانيا حتى وفاتها.
تخيل أن تفقد نفسك؟ ماذا يعني ذلك؟ ذلك يعني أنك تفقد إنسانيتك، شخصيتك، طموحك، أحلامك، علمك وشهاداتك، وظيفتك، الناس من حولك، أسرتك، زوجتك أو زوجك، وأبناءك، بل وتفقد حتى والديك، فلا تعد تتذكر من هم بل لا تتذكر حتى نفسك.
”الخرف“ الزهايمر الذي أطلق عليه هذا الاسم نسبة إلى الدكتور مكتشفه أواز ألتسهايمر، هو ضعف تدريجي للوظيفة الذهنية، ويتسم بتنكس في نسيج الدماغ وفقدان للخلايا العصبية.
وحينما درسنا في مادة العلوم عن الجهاز العصبي علمونا بأن الخلايا العصبية هي خلايا لا يمكنها أن تعوض فما يفقد منها لا يعوض، حينها درسناها كمعلومة لم نعرها أي انتباه، أو لعلها كانت مؤلمة لمن كان يعرف ذلك فيما يكون قد لمسه أو شاهده من قريب لأحد أبويه أو أجداده أو أحد أقاربه.
تفقد الذاكرة بشيء تدريجي، ينسى معه الشخص بعض أحداث اليوم أو الأمس، ينسى أين وضع مفاتيح سيارته، أو رقم هاتفه، ويعتقد أن هذا النسيان أمر اعتيادي سببه بعض المشاغل أو التفكير في أمور الحياة، ويتفاقم حينما يدخل عليك شخص عزيز، وتسأله من أنت! حينها تعرف أن النسيان طال جزءاً كبيراً من ذاكرتك، وبدأ يأكل في خلايا دماغك، وهذا ما حصل مع ”أوغوستيه“ أول ما لاحظت عليها أعراض المرض حينما كانت تعاني النسيان الكثير وعدم النوم والتوتر، وكانت تردد دائما عبارة ”أنا ضائعة“ وحينما طلب منها الدكتور ”ألواز“ أن تكتب الرقم ثمانية ”كانت تكتب“ ”أنا أفقد نفسي“.
وقد كتب الدكتور غازي القصبي، في أحد كتاباته رواية أسماها ”النسيان النعمة واللعنة وجحيم يدعى الزهايمر“.
أشار الكاتب فيها إلى بطلها ”يعقوب العريان“ وكيف كانت بداية محنته، وكيف أنه يعجز عن التعبير عن حبه للتي يحب ويقول: ”يقف يعقوب العريان أمام بائعة العطور ليشتري زجاجة من عطر زوجته المفضل... تسأله البائعة ماذا يريد ويحاول عبثا تذكر الاسم... بعد دقائق أحمر فيها وجهه وبدت عليه علامات الاضطراب غادر المتجر وهو يعد البائعة التي تبتسم بعطف بأن يعود إليها ومعه الاسم مكتوبا.“
المؤلم في الأمر والغريب في الوقت ذاته، أنك لو دخلت على مريض ألزهايمر، يسرد لك قصصا أحداثا في الماضي البعيد بتفاصيلها، حتى تشكك أنه ليس بمريض، وأنه قد يتصنع النسيان لربما، ثم ما أن تسأله مجددا عن تلك الأحداث، حتى لا يعد يتذكر منها شيئاً، بل ولربما يسألك على نحو متكرر من أنت؟
من الصعب ألا ترى نفسك في عيني أهلك، وأن تضيع من بينهما في وجودهما، من الصعب ألا يتذكروا من أنت، وأنت الذي فرحت الدنيا، واستبشرت معهم لقدومك، من الصعب أن تتجاوز، أنك غريب بينهم، وأنت ابنهم، من المؤلم أنك تنادي والدتك، ”أمي“ فلا تجيب ومن ثم تسأل أين ولدي؟