آخر تحديث: 21 / 11 / 2024م - 7:28 م

المرحلة الذهبية - الحلقة الأخيرة

رضي منصور العسيف *

هل أنت مستعد لسماع بقية قصتي، لقد حدثتك في الجزء السابق عن تغيير تخصصي من كلية الطب إلى كلية الهندسة، فهل ترغب بإكمال القصة؟

قال الكاتب: أنا مستعد لسماعها...

قلت: هناك مواقف لا يمكن أن ينساها الإنسان، وهناك أشخاص لا يمكن أن ننساهم...

هذا ما حدث لي بالضبط عندما جاء الدكتور وأخبرني بالخبر الذي كان بداية المرحلة الذهبية...

قال لي الدكتور هناك خبرين أود أن أقولهما لك، الأول خبر مفرح والثاني محزن...

نظرت إليه وقلت: أرجوك يا دكتور لا «تلعب» بأعصابي قل لي ما هما الخبران؟

ابتسم الدكتور وقال: مبروك لقد حققت النجاح وكنت ضمن الثلاثة الأوائل في هذه المسابقة...

قلت الحمد لله، ما هو الخبر المحزن؟!

ضحك وقال: ستتركنا وتغادر إلى «أثينا - اليونان» هناك المسابقة الكبرى تنتظرك... لقد تم ترشيحك لتمثل الكلية في هذه المسابقة العالمية...

لم أستطع أن أتحدث من شدة المفاجأة...

هل ما تقوله صحيح يا دكتور؟!

ابتسم وقال: نعم... ألف مبروك...

ذهبت إلى أثينا وقضيت هناك أجمل 21 يوم... كنت أحضر وأصمم وأشارك في المسابقة بكل ثقة... حتى حققت النجاح مرة أخرى من خلال تصميمي للمشروع الهندسي... قلت في نفسي هذا هو مكاني الصحيح وليس كلية الطب...

سألني أحدهم عن شعوري وأنا أحقق هذا النجاح. فأجبته: أنا فخور بنفسي وبقدراتي... وأهدي هذا النجاح إلى والدي العزيز وإلى والدتي رحمها الله وإلى وطني الغالي...

عدت للسعودية وأنا في قمة السعادة، وتم تكريمي من قبل الأمير سعود بن نايف...

قابلت أبي الذي عرف بما حققته من نجاح وتكريم، سألته هل أنت غاضب مني يا أبي؟!

ابتسم وقال: لا يمكنني أن أغضب من المهندس عمر.... أنا الآن فخور بك... أنت شاب طموح ولك رأيك... أدعو الله أن يوفقك لأعلى درجات النجاح...

قبلت رأس والدي وقلت: ستراني في أعلى الدرجات يا أبي...

بعد هذا الإنجاز وصلتني عدة دعوات من قبل عدة شركات أجنبية ترغب في رعايتي والانضمام للعمل معها وأنا على رأس الدراسة... رفضتها جميعها... وذلك لأني أرغب في أن تكون الرعاية وطنية وليست أجنبية... وهذا ما حدث عندما حصلت على ترشيح لإكمال البكالوريوس في الولايات المتحدة...

في بداية رحلتي الدراسية في الولايات المتحدة أصبت بحالة هبوط حاد في السكر، كانت هذه هي المرة الأولى التي أشعر بهذه الأعراض، حيث جلست من النوم، وقد كنت أتصبب عرقاً وعدم المقدرة على الحركة وزغللة في العين وصداع شديد... اتصلت على الرقم 911 وشرحت لهم ما أشعر به...

لحظات حتى جاء الفريق الطبي... لم أستطع فتح الباب، فقاموا بفتحه «بالقوة»... فحصوا ضغط الدم والسكري فوجدوا أنني أعاني من هبوط حاد في السكر، أسعفوني بتقديم شراب سكري وتم نقلي للمستشفى مباشرة، بقيت هناك لمدة يومين تحت المراقبة...

في اليوم الثاني جاء الفريق الطبي

سألني الطبيب ما هو العلاج التي تتبعه؟

قلت له: علاجي هو أدوية خافضة السكر

شهق الطبيب وقال: منذ متى وأنت مصاب بالسكري وأنت على هذا العلاج؟!

قلت له: منذ ولادتي وأنا مصاب بالسكري... ولم أر سوى هذا العلاج...

قال: كيف تكون مصاباً منذ الولادة... وأنت على هذا العلاج... المفترض أن يكون علاجك الأنسولين...

قلت: لا أعلم شيئاً عنه....

سألني مرة أخرى: كيف استطعت العيش وأنت على هذا العلاج؟!

قلت: لا أعلم...

ظل الطبيب ينظر إليّ متعجباً...

قلت: صدقني لا أعرف عن الأنسولين سوى الاسم... وكنت أظن أن علاجي هو هذه الحبوب الخافضة للسكر...

وصف لي الطبيب علاج الأنسولين وعدة مواعيد لحضور البرنامج التعليمي لأخذ حقنة الأنسولين والتثقيف الصحي والغذائي.

عندما أتأخر عن الموعد كانوا يتصلون بي ويسألون عن سبب التأخير في بعض الأحيان تحضر سيارة الإسعاف لتنقلني للمستشفى... حتى أنهيت البرنامج وأتقنته... ولكن للأسف لم أتبعه بالشكل المطلوب... فصرت أخذ إبرة الأنسولين في أي وقت... ولم أمتنع عن تناول السكريات...

بعض الأحيان كنت أشعر بالحرج عندما أسافر من ولاية لأخرى وآخذ معي الأنسولين وفي المطار يسألوني عن هذه الأدوية، فأخرج لهم الوصفة الطبية، وعندما أتناول وجبتي مع الأصدقاء فإني أؤجل إبرة الأنسولين لحين عودتي للمنزل وفي كثير من الأحيان لا أخذها...

علاقتي مع السكري لم تكن علاقة تفاهم، بل هي علاقة تجاهل وعدم التزام... واستمر هذا الوضع طوال فترة وجودي في الولايات المتحدة...

أنهيت البكالوريوس في ثلاث سنوات ونصف... وحصلت على مرتبة الشرف الثالثة...

قررت أن أقدم لدراسة الماجستير في نفس الجامعة... وتم قبولي... وخلال هذه الفترة عملت مع وزارة الإسكان عن بعد فكنت أصمم لهم بعض الأعمال وأستلم منهم مكافأة مالية...

انتهيت من الماجستير في سنتين وشهر... ويعد هذا إنجاز.

عدت للسعودية وبدأت العمل في عدة مشاريع... حيث افتتحت مع بعض الأصدقاء مكتباً للاستشارات الهندسية في منطقة العليا بالخبر. وأصبحت محاضر في جامعة الدمام، إضافة لعملي مع وزارة الإسكان.

ولكن في عام 2018 م توفي والدي وكانت وفاته حدث زلزل حياتي... لقد انكسر ظهري في ذلك اليوم الذي ودعنا فيه أبي... أبي قصة بطولة وتفاصيل جميلة... نعم تفاصيل لا تتكرر في شخصية غير أبي... تفاصيل كثيرة دُفِنت بجوار أبي، كضحكته تلك التي تمحي كل أحزاني، ونظرته المليئة بالحنان التي تزيل أوجاعي.

مسحت دمعتي...

قال الكاتب: آسف لقد جعلتك تتذكر تلك الأيام...

قلت لا عليك... هكذا هي الحياة... وربما كانت هذه نهاية المرحلة الذهبية التي عشتها...

هل تسمح لي أن أكمل قصتي... فهناك مواقف مؤلمة ربما تكون عظة للقارئ... يتعرف من خلالها على الخط الثاني الذي لم أكن واعياً له... كنت غافلا عنه... كنت لا أبصر سوى خط واحد وهو الجد في الدراسة والعمل... وقد حققت النجاح كما عرفت ولكن هناك الخط الثاني المؤلم الذي كان ينهش في جسمي ولم أكن منتبهاً له...

قال الكاتب: إذا كنت راغبا في ذلك فلا بأس... أنا أستمع إليك...

قلت سأختصر عليك الحديث...

بعد وفاة أبي عشت أيام الحزن والفراق... ولكني لم أتوقف عن العمل والمشاريع... كنت أبني بيتي وأعمل بجد في مشاريعي الهندسية حتى تكالبت عليّ الضغوط... ضغوط عمل المكتب الهندسي... عملي مع وزارة الإسكان وعملي كمحاضر في الجامعة... حتى قررت أن أنهي عقدي مع وزارة الإسكان لأتفرغ لبقية مشاريعي الخاصة...

وهكذا ودعت فترة جميلة مع وزارة الإسكان...

في عام 2020 شعرت بتعب وأنا أمارس عملي في المكتب.. توجهت للمستشفى وبعد الفحوصات أخبرني الطبيب بوجود جرح صغير في الأصبع الكبير لقدمي اليمنى.. ويجب بتره...

صعقت لسماعي كلمة بتر... سألته ألا يمكن علاجه؟

قال الطبيب: لقد وصلت متأخراً... لا يوجد حل سوى البتر...

قلت بصوت منكسر: توكل على الله...

وتم بتر الأصبع...

لم يتوقف المرض عند هذا الحد... قلت لك لقد بدأت رحلة مؤلمة...

سألني الكاتب: وماذا حدث أيضا؟!

تنهدت وقلت في عام 2022 أصبت بانتكاسة صحية أخرى.. وعند مراجعة المستشفى... نظر إلي الطبيب نظرة حزن... وقال: يؤسفني أن أخبرك أن الأصبع الكبير في رجلك اليسرى يريد الالتحاق بصاحبه...

لم أستطع الكلام...

سألني الطبيب ما هو قرارك...

أجابته دموعي...

قال الطبيب ولكننا لا يمكننا أن نخدرك تخديراً كاملا... خوفاً على وظائف الكلى أن تتدهور أكثر...

قلت: الكلى... ما بها...

قال الطبيب: للأسف الكلى في مراحلها الأخيرة...

قلت: وماذا ستعملون إذا...

قال الطبيب سنخدرك تخديراً موضعياً... أعانك الله...

بدأ الأطباء بعملية البتر وكنت أرى العملية وأنا أموت بداخلي...

وتم بتر الأصبع الكبير...

اسمح لي يا صديقي إن كنت آلمتك بقصتي... قلت لك لقد انتهت المرحلة الذهبية والمرحلة المؤلمة لم تتوقف عند بتر الأصبعين...

قال الكاتب:

قلت: أصبت بالفشل الكلوي... وعلاجي يعتمد على غسيل الكلى، ولكن هناك تفاصيل هل ترغب بمعرفتها؟

قال الكاتب: إن لم يكن في ذلك مشقة عليك...

قلت: في عام 2023 وفي بداية شهر رمضان شعرت بتعب وترجيع... حتى سقطت مغشياً عليّ في البيت...

استيقظت... عرفت أني على سرير المستشفى...

لا أرى شيئاً فقط بياض...

سمعت صوت الطبيب: الحمد لله على السلامة يا عمر...

أجبته: الله يسلمك... أين أنا... من أنتم... لماذا لا أرى شيئاً؟

بعد برهة من الصمت قال الطبيب: آسف يا عمر أن أخبرك.. أنت مصاب بالفشل الكلوي المرحلة النهائية، وتحتاج إلى غسيل دموي... وقد بدأ الغسيل معك من اليوم...

قلت وماذا عن النظر... لا أرى شيئاً....

أجاب الطبيب: آسف مرة أخرى... عندك انفصال في شبكية العين....

كانت هذه الكلمة الأخيرة كالصاعقة....

بقيت صامتاً...

لم أستوعب ما حدث...

قلت في نفسي أهكذا يعمل السكري... لم يرحمني...

ثم قلت وأنا كذلك لم أرحمه... كنت أتعامل معه بإهمال شديد... وهذه هي النتيجة...

الحمد لله على نعمه التي لا تعد ولا تحصى...

هل عرفت الآن قصتي يا صديقي...

مسح الكاتب دموعه وقال.. لقد آلمتني...

قلت: لا تحزن يا صديقي... عمر لا يعرف اليأس...

قال الكاتب: ماذا تعني...

قلت: بدأ مرحلة البحث عن علاجي العين والحمد لله عاد بصري بنسبة 35% الحمد لله... وها أنا أحضر جلسات الغسيل الكلوي بانتظام وتعرفت على مجموعة من الكادر الصحي الطيبين الذين وقفوا معي بكل حب...

ولم أتوقف عن مشاريعي... قريباً سأفتتح مطعماً إيطالياً... وأتمنى منك حضور الافتتاح... وسأسعى لإكمال دراستي لأحصل على شهادة الدكتوراه...

قال: ما شاء الله أنت بطل... ها أنت تبدأ مرحلة ذهبية جديدة أتمنى لك النجاح...

بعد شهور أرسلت لصديقي الكاتب:

يا صديقي أزف إليك خبرين مفرحين

الأول: تم عقد قراني

الثاني: تمت الموافقة على طلبي... سأكمل دراسة الدكتوراه في جامعة الملك عبد العزيز...

همسة

إذا استطعت أن تتعلم كيف تنتفع من فشلك، فسوف تقطع شوطاً بعيداً في طريق النجاح.

انتهت

كاتب وأخصائي تغذية- القطيف