مِنّ خفض البطالة إلى رفع تنافسية قوة العمل السعودية
تأتي الأهمية الاقتصادية لسوق العمل من محاور مؤثرة، ليس أقلها إن ما ينفقه العاملون يأتي مما يتلقونه من أجور نظير عملهم، فإن زادت الأجور زاد بالتالي الاستهلاك، أي زاد الطلب، أي انتعش الاقتصاد. وهكذا، فثمة موجبات اقتصادية تتصل بسوق العمل، يحرص واضعوا السياسات - إجمالاً - على تحقيقها:
1. خفض البطالة لأدنى حد
2. تحسين الأجور أو على أقل تقدير الحد من تأكل قوتها الشرائية من خلال ضبط التضخم
3. ورفع معدل المشاركة في قوة العمل من خلال استقطاب من هم في سن العمل لكنهم اختاروا الا يواصلوا البحث عن عملٍ لسبب أو لآخر
ويحقق هذا حرص، إذا ما تحقق على أرض الواقع، جملة امور، منها: خلق طلبٍ اضافي على السلع والخدمات؛ فَجل ما يكسبه العامل من أجر سيستهلكه هو وأسرته في شراء احتياجاتهم. وثمة توجه اقتصادي تعتمده العديد من الدول، بأن تسعى لحث الناتج المحلي الاجمالي على النمو من خلال حفز الطلب، ولذا تجد أن الاستهلاك في مثل هذه الدول قد يعادل 60% - 70% من الناتج المحلي الاجمالي. وعليه، بوسعنا أقول أن سوق العمل تكتنز فرصاً لنمو الاقتصاد وازدهاره، وهي ليست سوق ملغمة بالأعباء.
مما تقدم، فإن سوق العمل هي أهم اسواق الاقتصاد قاطبةً، فتأثيرها شامل لكل زاوية - مهما كانت“نائية”وتفصيلية - من زوايا الاقتصاد؛ فالأجور هي المحرك الاوضح للاستهلاك الخاص. الاستهلاك الخاص هو قيمة ما تنفقه الاسر لشراء السلع والخدمات، ويمثل المكون الأكبر - بفارق - للناتج المحلي الاجمالي، ففي الولايات المتحدة يزيد عن ثلثي الناتج المحلي الإجمالي.
ماذا يعني هذا؟ أن صحة الاقتصاد وانتعاشه هي من صحة وانتعاش سوق العمل، والعكس صحيح. وتنافسية الاقتصاد هي - للحد البعيد - تتأتى من كفاءة سوق العمل. وهكذا فأهمية سوق العمل متعدية اقتصادياً لارتباط التغير في الانفاق بها وكذلك لما يعنيه توفر الموارد البشرية للمستثمر المحلي والأجنبي، واجتماعياً لما تعنيه بأن يمارس الشخص عملاً يدر عليه دخلاً يفي باحتياجاته واحتياجات من يعول أو من تعول.
وبالتأكيد فإن أخذ معدل البطالة ما بين السعوديين منحنى تنازلي هو أمر استهدفتهُ رؤية 2030، وتحققه بتؤدة واصرار، وحدث ذلك بتعاضد جهود مجموعة من السياسات صيغَت لتنفيذها مبادرات، دعمتها حزمة من برامج الرؤية لاسيما برنامج تنمية القدرات البشرية وبرنامج التحول الوطني، وساهم في دعمها صندوق التنمية الوطنية، وصندوق تنمية الموارد البشرية، الذي من مبادراته تمهير وقرة ووصول على سبيل المثال لا الحصر.
وإن كان من أجندة لأولويات لزيادة تأثير سوق العمل في الاقتصاد السعودي، فلعل بنودها ترتكز على:
1. زيادة المشاركة الاقتصادية لمن هم في سن العمل، فذلك يعني أنهم يساهموا في الانتاج وأن يتلقوا أجراً مقابل ذلك، وهكذا ينمو الاقتصاد ويتلقى مزيداً من المواطنين أجوراً وينفقونها داخلياً بما يزيد الاستهلاك.
2. تنمية رأس المال البشري: وهو مجمل القيمة الاقتصادية للتعليم والتدريب والمهارات والخبرة، وهذا هو السلاح لتعزيز تنافسية الاقتصاد السعودي، حتى تبز المنافسين خدماته ومنتجاته وابداعاته وريادته التي محورها عمالة ماهرة وابداعات غير مسبوقة.
ومواصلةً للحديث عن التأثير الكبير الذي لسوق العمل على مجريات الاقتصاد، وأن الأهمية تتضاعف لاعتباراتٍ راهنة ومستقبلية تحتم رعاية وتنمية رأس المال البشري باعتباره المخزون الاستراتيجي من المهارات والمواهب، ومبررات ذلك أن المهارة والابتكار هما المورد الأكثر ندرةً. هذا الأمر متفق عليه منذ الأزل، وتتزايد أهميته مع مرور الوقت؛ فكل ثورة صناعية تأتي تؤكد أن مهارة البشر وابداعاتهم هي ما يُحدث الفارق في الازدهار الاقتصادي للدول، ويتأكد هذا مع الثورة الصناعية الرابعة «الراهنة» والخامسة.
فإذا كان هناك من يقول إن الحروب ستكون اقتتالاً على الماء، فالتنافس الاقتصادي بين الدول هو على تنمية المهارات محلياً واستقطابها عالمياً، تحوطاً لاحتياجات الاقتصاد حالياً ومستقبلاً، وحرصاً على توفر المخزون الاستراتيجي اللازم من المهرة والمبتكرين والرياديين. وهكذا، نجد أن الاقتصاد يدور في فلك موارده البشرية، فهي مورده الخام القابل للتنمية والتطوير والتمهير والابتكار، وهي سلاحه ليبلي بلاءً حسناً في تنمية المهارات محلياً وفي“استزراعها”من خلال اكسابها المهارات من برامج تعليم وتدريب وتمهير متميزة ومواكبة للمتغيرات.
وهنا لابد من التأمل فيما تقدمه برامج تحقيق الرؤية ومبادراتها التنفيذية ذات الصلة، والتي يأتي في مقدمتها - بحكم الاختصاص - برنامج تنمية الموارد البشرية، الذي يهدف إلى“ضمان جاهزية المواطنين في جميع مراحل الحياة من خلال الاستثمار في المواهب والكفاءات الوطنية، وضمان المواءمة بين مخرجات التعليم واحتياجات سوق العمل، وتعزيز ودعم ثقافة الابتكار وريادة الأعمال، وتطوير وإعادة تأهيل المهارات، إضافةً إلى ترسيخ القيم وتعزيزها، ونشر اللغة العربية والعناية والاعتزاز بها؛ للوصول إلى اقتصاد مزدهر تقوده قدرات وطنية ذات كفاءة عالية. ”
وطلباً للتحديد، فلعل من المفيد بيان أن الموارد البشرية هي في الأساس موارد“خام”إن جاز التعبير، تصقل بالعناية الصحية والاجتماعية وبالتعليم والتدريب والتأهيل وإعادة التأهيل وباكتساب الخبرة على رأس العمل أو في غمار السوق عبر الريادة.
السؤال: ما العنصر الأكثر تأثيراً لجعل رأس المال البشري في بلدٍ ما أعلى مساهمة في تحقيق النمو الاقتصادي؟ دون مواربة، التعليم هو الأساس، وبتعبير أدق التعليم المرتكز إلى الابداع والابتكار والتفكر، وبتعبير أكثر تحديداً التعليم المتسق مع متطلبات سوق العمل الراهنة والمنظورة. وفي الحالة السعودية، فإن التحدي مضاعف؛ فقد غدت متطلبات سوق العمل - في ظل مستهدفات ومبادرات الرؤية - عالية الطموح إذ تسعى لتلبية طلبات أنشطة اقتصادية تقليدية كانت غائبة، وطلبات الرقمنة التي غدت مساهم أساس في نمو الاقتصاد.
وهكذا، نجد أن المؤشرات تتجه إلى تطوير التعليم ليتماهى مع متطلبات السوق، ليس الحالية فقط بل المستقبلية كذلك.
هذا التحدي، ليس بالإمكان حسمه إلا بالمواكبة المستمرة، التي لا تفتر، فمنهجية أن تصاغ المقررات كل خمس سنوات أو عشر سنوات، لم تعد صالحة أخذاً في الاعتبار أفضل الممارسات التي تتبعها الدول الأعلى تنافسيةً. والأمر لا يقتصر على مراجعة المقررات من قبل المختصين في التعليم، بل لابد أن يجلس أرباب الصناعات والقطاع الخاص والممارسين على رأس الطاولة، فهم في نهاية المطاف مَن سيوظف مخرجات التعليم، فإن لم تكن على المستوى المطلوب من الجودة سيكون هناك تكدس من المخرجات التي تنتظر التوظيف ولا تجده، وسيلجأ القطاع الخاص للالتفاف للحصول على المهارات غير المتوفرة محلياً من الخارج، وسيفقد الاقتصاد بذلك الكثير؛ تصدير فرصة عمل كان بالإمكان أن يشغلها مواطن أو مواطنة، وسيخسر تراكمية المهارة التي كان من الممكن أن تكون من نصيب المواطن أو المواطنة، لكنها ستكون من نصيب عامل وافد سيأخذها - بالضرورة معه عندما يعود لبلده.
أظن أن التحدي واضح: السعي للحد من تصدير فرص العمل بكل وسيلة، ولعل أنجع وسيلة هو تجويد مخرجات التعليم وفق معايير الصناعات والأنشطة الاقتصادية، إذ يمكن الجزم أن هذه هي أقصر الطرق للحد من العجز المهاري ولتجسير الفجوة في الانكشاف المهني في العديد من المهن الحرجة.