الحج لغة وقصدا
هل سألت نفسك في يوم ما لماذا شرع الله الحج؟ ولماذا نطوف حول الكعبة؟ ونسعى في المسعى؟ ونقف على صعيد عرفات؟ ونرمي في منى الجمرات؟ لماذا نضحي يوم العيد بأضحية؟ ولماذا لا نحج إلا بثياب بيضاء تحاكي الأكفان؟
كلها تساؤلات كتب في معانيها وفلسفتها الكثيرون من الكتاب وعلماء الدين والفلاسفة على مر الأزمان، كلنا يعرف أن الحج هو السمو إلى الله والقصد في عبادته بطريقة مختلفة عن عبادات سائر الأيام، كلنا يعرف أن الحج يبدأ بالنية وعقدها في الميقات، ولبس الإحرام، وهما أولى الأعمال والتي تبدو كالمفتاح الذي به تفتتح بقيتها.
لماذا عقد النية في الميقات؟ لماذا لا يقصد الحاج هذه الفريضة بالنية في قلبه وكفى؟ لقد فرض الله تعالى مواقيت زمانية ومكانية يقصد منها الحاج أولى واجبات وأركان تأدية حجه، ففي المواقيت المكانية الخمسة، وهي ذو الحليفة، مسجد الشجرة، الجحفة، وقرن المنازل، ويلملم. وكلها أماكن دلنا عليها رسول الله وأهل بيته الطاهرين في الكثير من الروايات والأحاديث، وعلى لسان ممن حضره ﷺ، يبدأ فيها الحاج بعقد نيته على ترك ما يستحق تركه من أمور الدنيا وعقد العزم على العروج إلى الله في أيام معدودات، تاركا كل شيء وراء ظهره لابسا إحرامه، كمن يستعد للموت بلبس أكفانه، ولا عودة للميت من بعد أن يلبس الكفن، كما لا عودة للحاج بعد أن يلبس الإحرام إلا بعودة جديدة خالية من الذنوب والمعاصي، كيوم ولدته أمه.
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: ”الْحَجَّهُ ثَوَابُهَا الْجَنَّهُ وَالْعُمْرَهُ کَفَّارَهٌ لِکُلِّ ذَنْبٍ” الكافي.
وما إن ينطلق الحجاج بعد أن فتحوا أول باب من أبواب القصد إلى الله، حتى ينخرطوا في مجموعة من الأعمال على قسمين: «واجبات - وأركان» وفيها قسم ثالث نوراني وهو قسم «المستحبات»، فمع الحر والتعب والجهد المبذول، كم من الرأفة تأخذ بالإنسان على نفسه حين يسقي بذرتها الجديدة بسقاية المستحبات لتنبت له شجرا يانعا فريدا.
يخلع ثيابه ويلبس الإحرام، وكأنه خلع ثوب المعصية والذنوب واستبدلها بثوب الطاعة، يلبي ”لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك“ التلبية تلك الاستجابة التي تخرج من الروح عروجا إلى السماء، على إثر نداء سماوي قال فيه الله عز وجل: ﴿وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ﴾ [الحج: آية 27] فها هو واقف بين يدي المولى تعالى، يتقلب في نعمه عز وجل، فوجوده في بيت الله وفي حرم الله وفي مشاعر الله المقدسة، طائفا حول الكعبة سبعا يطوف وتطوف معه الأمنيات، مترددا في المسعى جيئة وذهابا حيران متعلقا بين الرجاء والخوف، راميا للجمرات بائتا في منى وداعيا المولى تعالى في عرفات، تاركا الأهل والمال والولد، متجردا بنفسه وروحه فقط إلى الله تعالى، مختليا بنفسه من صخب المدينة وضجيج الحياة، ململما ما تبقى له من أيام تحت كل هذه النعم، إنها بالفعل لغة السمو إلى الله وقصد الجوارح نحو الله.