آخر تحديث: 24 / 11 / 2024م - 12:18 م

عندما يفشل الإيمان في توجيه السلوك

هاشم آل حسن

يتسم عالمنا بالتناقضات العميقة بين المظاهر الدينية والسلوكيات اليومية للأفراد والمجتمعات حيث تبرز حاجة ماسة لمعرفة وفهم هذه الفجوة بين الإيمان والأفعال. هذا التناقض يبرز بشكل خاص في السعي وراء المال والسلطة والشهرة ويقوض الثقة داخل المجتمعات، ويلحق الضرر النفسي بالأفراد ويعيق الازدهار الاقتصادي. ولهذا يُعد تناول هذه الإشكالية أمراً ضرورياً لفهم كيف تتناسق تصرفاتنا اليومية مع صدق التزامنا بتعاليم الدين ومع مدى التزامنا بالمبادئ الأخلاقية التي ننادي بها.

فجوة النفاق الديني:

النفاق يُعتبر من الأسباب الرئيسية التي توسع الفجوة بين الإيمان والأفعال، حيث يلجأ بعض الأفراد إلى إظهار نفسه كشخص ملتزم بتعاليم الدين وذلك لكسب القبول الاجتماعي أو تجنب التدقيق في شخصيته وأفعاله، مما يؤدي إلى التزام سطحي بتعاليم الدين ولا يترجم الطقوس التي يقوم بها إلى سلوك أخلاقي حقيقي. وهذا أيضا يترافق مع فهم محدود أو مشوه للتعاليم الدينية، مما يؤدي إلى التركيز المفرط على الطقوس بمعزل عن المبادئ الأخلاقية. من جهة أخرى، تسهم الضغوط الاجتماعية، مثل الطموح في كسب المال أو السلطة، في دفع الأفراد نحو تقديم تنازلات أخلاقية خصوصًا في البيئات التنافسية أو التي تسودها الممارسات الفاسدة، مما يجعل التغاضي عن المبادئ الأخلاقية أمرًا شائعًا ويؤدي إلى تنازلات جسيمة.

معضلة الفصل بين الإيمان والأفعال:

في كثير من الأحيان، نجد أنفسنا أمام معضلة الفصل بين ممارساتنا الدينية وأفعالنا اليومية حيث تتجلى الممارسات والطقوس الدينية، والتي من المفترض أن تعكس القيم والمعتقدات للفرد والمجتمع. لكن ما يحدث في الواقع أن هذه الممارسات قد تتعارض بشكل صارخ مع السلوكيات الاجتماعية، مثل الخداع والنفاق والغش. وهذا التناقض يكشف عن فجوة مهمة بين حياتنا الروحية وأفعالنا اليومية، حيث قد يبرع الأفراد في الشعائر والممارسات الدينية ولكنهم قد يتعثرون في ممارساته الأخلاقية.

وعلى الرغم من التمسك بقيم دينية وأخلاقية عالية مثل الصدق والعدالة من قبل الكثير من أبناء المجتمع، إلا أنه قد يلاحظ وجود تناقض ملحوظ يتمثل للبعض في تهميش هذه القيم في كثير من الأحيان لصالح تحقيق المكاسب الشخصية والذي ينبع من ضعف استيعاب القيم أو الضغوط الظرفية التي تقلل من أهمية هذه الاعتبارات الأخلاقية والدينية.

ويعتبر فقدان المصداقية هو نتيجة أخرى مهمة لبعض الأفراد الذين يمارسون سلوكًا غير أخلاقي على الرغم من التظاهر بالالتزام الديني. فعندما تصبح الفجوة بين قيمهم المعلنة وأفعالهم الواضحة يفقدون الاحترام والثقة داخل المجتمع. ونتيجة لذلك ينعكس هذا التأثير المدمر على العلاقات الشخصية والمركز المهني للأفراد ويضعف ويمس سلبا المعتقدات والثوابت الدينية التي يروجون لها.

آثار التناقض بين الإيمان والسلوك:

عدم التوافق بين الإيمان والأفعال قد يؤدي إلى نقص الثقة داخل المجتمعات، مما يضعف التماسك الاجتماعي. فعندما يرى الناس أن هناك فرقًا بين ما يعلنه الأفراد من إيمان بتعاليم الدين وما يقومون به من أفعال، يبدأون في الشك في صدق التزام الآخرين بتعاليم الدين. هذا الشك يمكن أن يجعل الناس أكثر حذرًا وتوجسًا تجاه المظاهر الدينية الخارجية، مما يزيد من الفجوة بين أفراد المجتمع ويقلل من روح الوحدة والتضامن بينهم.

علاوة على ذلك، يمكن أن يكون هذا التناقض مصدرًا كبيرًا للصراع الداخلي على المستوى الشخصي. عندما يدرك الأفراد أن أفعالهم لا تتوافق مع معتقداتهم الدينية، قد يشعرون بالذنب والقلق الشديد. هذا الشعور الدائم بالتناقض يمكن أن يؤدي إلى انخفاض في تقدير الذات، حيث يبدأ الأشخاص في الشك في قيمتهم الشخصية وقدرتهم على العيش وفقًا لمبادئهم ومعتقداتهم. أيضا، هذا الصراع الداخلي يمكن أن يكون له آثار سلبية على الصحة النفسية والعلاقات الاجتماعية للأفراد، مما يزيد من تعقيد التحديات التي يواجهها المجتمع ككل.

وعلى الصعيد الاقتصادي، يمكن لهذا التناقض أن يثبط الاستثمار ويخنق النمو الاقتصادي، فالأعمال التجارية تزدهر في بيئات يُعتبر فيها السلوك الأخلاقي والإنساني أمراً مفروغاً منه، ولكن في البيئات التي تتسم بالنفاق والغش وعدم الصدق، تتردد الشركات والمستثمرين في الاستثمار فيها، مما يعيق التقدم الاقتصادي ويحد من فرص الازدهار بحيث تصبح بيئة طاردة للأعمال.

ردم الفجوة الإيمان والسلوك:

في سبيل تعزيز القيم الأخلاقية، يجب على المجتمعات والمؤسسات تعزيز ثقافة المسؤولية الشخصية والسلوك الأخلاقي. من خلال إنشاء ثقافة تحاسب الأفراد على أفعالهم وتشجع على المشاركة والحوار حول القضايا التي تمس الالتزام بتعاليم الدين إضافة إلى القضايا الأخلاقية وذلك لردم الفجوة بين الاعتقاد والسلوك بشكل كبير. كما أن المؤسسات الدينية والتعليمية لها دور بارز في هذا السياق، حيث يجب أن تكون مراكز راعية للتوعية الدينية بحيث تناقش ليس فقط الطقوس بل التطبيقات العملية لهذه التعاليم لمساعدة المجتمع ككل وبالأخص الأجيال الجديدة في تبني وتطبيق القيم الأخلاقية في حياتهم.

ويعتبر التركيز على الإيمان كأساس للعيش أمرا حيوياً لتحقيق الالتزام العملي بالإيمان ليعكس نفسه في الأفعال اليومية للأفراد والمجتمعات. إنه من الضروري التأكيد على أهمية الانعكاس الحقيقي للقيم الدينية في الحياة لإعادة توافق الإيمان مع الأفعال. ولذلك يجب أن يتم تجاوز الطقوس ليشمل تطبيق القيم التي تنادي بها الشريعة في توجيه تعاملاتنا اليومية لتساهم في تعزيز تماسك المجتمع وصحته.

وأخيرا، جسر الفجوة بين الإيمان والفعل ليس مجرد تحد أخلاقي بل هو ضرورة اجتماعية واقتصادية تتطلب تفكيرًا معمقًا وعملاً جادًا. ومن خلال ربط التزامنا الحقيقي بتعاليم الشريعة مع أفعالنا اليومية بطرق معنوية وعملية. كما يمكننا بناء مجتمع أكثر إيمانا وعدلاً وتماسكا لأن الإيمان يلعب دورًا محوريًا في توجيه السلوك وتعزيز الممارسات الأخلاقية. فالمسؤولية تقع على عاتق كل فرد في المجتمع لضمان انعكاس التزامنا بتعاليم الشريعة في كل خطوة نحو مستقبل أفضل. وهذا لا يتم إلا بتركيز الجهود على تحفيز التغيير من الداخل نحو الخارج لأنه أمر حيوي، بحيث يبدأ كل فرد بنفسه ثم يمتد تأثيره إلى المجتمع ككل، مما يعزز التزام كل فرد بمحاسبة ذاته وتصحيح مساره بما يتوافق مع القيم التي يؤمن بها لتحقيق توافق أكبر بين الإيمان والأفعال.