آخر تحديث: 22 / 11 / 2024م - 4:21 م

تجربتي الأندلسية

غسان علي بوخمسين

زرت إسبانيا مع العائلة في رحلة سياحية قصيرة استغرقت حوالي أسبوع. في البداية أود التنبيه، أن هدفي من هذا المقال، هو تسجيل انطباعي الشخصي وما لفت انتباهي من خلال مشاهداتي وملاحظاتي وآرائي الشخصية ”خصوصاً التاريخية في بلد ضم بلاد الأندلس في يوم من الأيام. لهذا، آمل من القارئ الكريم أن يتقبل مني كثرة السرد التاريخي عن الأندلس كون الزيارة للأندلس وما تحمله من آثار ومعالم“. حاولت تقديم بعض النصائح التي أجدها مفيدة للسائح والقارئ عموماً. أرجو أن يكون المقال في قالب مريح ومشوق للقارئ. وهو اجتهاد مني في محاولة لإحياء أدب الرحلات بقالب معاصر يناسب قارئ اليوم، وأعتذر مقدماً من القارئ الكريم على طول المقال، كوني فضّلت أن يكون في جسم واحد دون تقسيم.

تجربتي في السفر إلى إسبانيا كانت فريدة ورائعة بكل المقاييس، فهي بلد نابض بالحياة والفن والتاريخ والجمال والعمارة وتمازج الحضارات، بلد الفلامنكو ومصارعة الثيران والليغا أشهر دوري كرة قدم في العالم والشواطئ الممتدة على مدى 6000 كلم، تعد من أشهر شواطئ العالم وأكثرها ارتياداً بسبب المناخ الدافئ والرمال الناعمة والسماء المشرقة. إسبانيا هي البلد السياحي رقم 1 في العالم، حيث زارها أكثر من 85 مليون سائح دولي العام الماضي متفوقة على فرنسا للمرة الأولى، حيث أنفق السياح أكثر من 100 مليار دولار، تشكل السياحة أكثر من 12% من الناتج المحلي للبلاد، وتحتضن منظمة الأمم المتحدة للسياحة ومقرها في مدريد.

أفضل وقت لزيارة إسبانيا من مارس إلى مايو ومن سبتمبر إلى أكتوبر، مع التنبيه على أن صيف أسبانيا حار جداً خصوصاً في الإقليم الأندلسي حيث تتعدى درجة الحرارة حاجز 40 درة مئوية. أمر مهم آخر عند التخطيط لزيارة إسبانيا، توجد مدن كثيرة تستحق الزيارة، ولكنها متباعدة وتحتاج إلى وقت طويل وميزانية ضخمة لزيارتها كلها، لذلك لا بد من التخطيط الجيد وتحديد الوجهات بدقة وحرص، حتى يمكن الاستفادة من الزيارة والاستمتاع بالوجهات والمعالم المتوافرة. بالنسبة لزيارتي كانت لمدن إقليم الأندلس تحديداً مروراً بمدريد. تنبيه مهم، إذا أردت زيارة غرناطة وقصر الحمراء تحديداً؛ ونظراً لكونه من أكثر المناطق زيارة في إسبانيا والعالم، يجب الحجز المبكر بشهرين على الأقل، وقد يكون ذلك سبباً في تحديد مسار الرحلة، لصعوبة وندرة الحجز.

من الملاحظات التي تلفت السائح في إسبانيا بسرعة، هي كثرة الكلمات الأسبانية التي أصلها عربي، حيث أشار أحد الباحثين إلى 4000 مفردة وبعضهم إلى 2000 مفردة، واللغة الإسبانية هي اللغة اللاتينية الوحيدة التي توجد بين حروفها الخاء والثاء، وهناك ارتباط بأن كل كلمة إسبانية تبدأ بـ ”ال“ ”al“ تبدأ بأداة التعريف العربية هي عربية الأصل. وهذا أمر ليس غريباً، فالعرب والمسلمون مكثوا في الأندلس حوالي ثمانية قرون ملأوها علماً وثقافة وحضارة. من الملاحظات على الشعب الإسباني أنه يحب السهر كثيراً، فمن أول ليلة لاحظت أنهم يسهرون لوقت متأخر من الليل، فحتى العاشرة ليلاً، وجدت الشوارع مزدحمة والمحلات بعضها مفتوحة، فالإسبان من أقل الشعوب نوماً، وقد كانوا في السابق يقيلون ليتمكنوا من السهر، لكنهم تخلوا في العقود الأخيرة عن القيلولة ”يسمونها سيستا“ وحافظوا على عادة السهر. من الملاحظات المزعجة أنهم لا يتكلمون الإنجليزية إلا قليل منهم وعندهم اعتزاز مفرط بلغتهم الإسبانية رغم توافد السياح عليهم، مما قد يسبب ضيقاً ومتاعب للسائح، ولكن يمكن تقليل هذه المشاكل باستخدام تطبيقات الترجمة الفورية. بطاقات الائتمان أو النقد كلاهما مقبول بشكل جيد، فالسائح لديه الخيار في استخدام إحدى الطريقتين حسب ارتياحه واختياره. ملاحظة مهمة للبطاقة الائتمانية، يجب إحضار البطاقة البلاستيكية ولا يُعتمد على البطاقة في الجوال، ويفضل أن تكون أكثر من بطاقة للاحتياط، حيث لاحظت خلال تأجير السيارة أنهم طلبوا بطاقتين بسبب فئة السيارة. من الملاحظ في إسبانيا، كثرة المهرجانات والكرنفالات، فلا يكاد يمر شهر إلا وفيه مناسبة أو أكثر، وهذا يشكل عامل جذب قوي للسياحة لاكتشاف وعيش عادات وتقاليد مختلفة ومتنوعة.

من المفارقات أنه كان عندي انطباع مسبق عن الشعب الإسباني أنه لطيف وودود جداً، لكني أصبت بخيبة أمل، فلم أجد هذا اللطف والود بالدرجة التي كنت أتوقعها بل كان كسائر الأوروبيين، وهذا درس مهم في أن لا نكوّن انطباعاً مسبقاً عن شيء حتى نعايشه. كنت أظن أن مصارعة الثيران ما زال تقليداً شائعاً وجماهيرياً عندهم، ولكن بعد القراءة والبحث، اكتشفت أن شعبيتها تراجعت كثيراً في العقود الأخيرة، ولم يعد الجيل الشاب مهتماً بها بل يراها عادة همجية وقد عفى عليها الزمن، بل إن وزارة الثقافة ألغت مؤخراً الجائزة الوطنية لمصارعة الثيران، مما قد يطوي صفحة من صفحات تقليد عمره مئات السنين. ما لاحظته كذلك، أنه لا توجد لديهم أكلات وأطباق شهيرة عديدة كالإيطاليين مثلاً، وجدت أن مطبخهم فقير وغير متنوع، وأشهر ما لديهم الباييا، وما أثار استغرابي، كثرة محلات البيتزا لديهم، وقد كانت ملاذًا سهلاً ومريحاً للوجبات. لفتني كثرة وجود لحم الخنزير المجفف في البقالات بشكل مزعج، واكتشفت أنهم من أكثر شعوب أوروبا استهلاكاً له بمعدل يصل لـ 70 كلغ للفرد سنوياً. لم أجد دراجات هوائية كثيرة مثل بقية دول أوروبا التي يشيع فيها استخدام الدراجات مثل هولندا أو الدنمارك مثلاً. كذلك لم ألاحظ الاهتمام الكبير بالبيئة مثل دول إسكندنافية من ناحية تقليل استخدام أكياس البلاستك فهي متوفرة في كل مكان. من الملاحظات الغريبة، هي كثرة الإشارات المرورية بشكل عجيب قد لا تجده في دولة أخرى، مثلاً قد تجد شارعاً طوله 300 متر به 10 إشارات، بل قد تجد إشارة في وسط انحناء الشارع بشكل غير مفهوم، مما قد يسبب إرباكا وحيرة للسائق أثناء القيادة. رقصة الفلامنكو من الرقصات الشهيرة جداً في إسبانيا والتي أدرجتها اليونسكو في التراث العالمي غير المادي، والعجيب مما قرأت، أن بعض الباحثين الأندلسيين المعاصرين، يُرجع اسم الرقصة لاسم عربي بعد التحريف وهو ”الفلاح المنكوب“. فبعد سقوط الأندلس وإجبار الأندلسيين على ترك دينهم والتخلي عن هويتهم والملاحقات والمحاكمات التي عقدتها محاكم التفتيش حينها، لم يتبق للموريسكيين ”وهو لقب أطلقه الإسبان القشتاليين على الأندلسيين للتحقير ويعني سمر البشرة“ إلا الرقص للتعبير عن حزنهم وألمهم الدفين من خلال حركات الأيدي والضرب بالقدمين، بل إن بعض الباحثين يشير إلى أن حركات الراقص تشي بخفاء للصلاة التي مُنعوا منها وترديد كلمة أوليه التي تعني ”الله“.

من وجهة نظري، إن تاريخ الأندلس بحاجة لإعادة النظر إليه والتأمل في السردية الرسمية التي تربينا عليها جميعاً، مثل ما يرتبط بقصة طارق بن زياد، وحرقه للسفن التي عبر عليها للأندلس ليقطع طريق العودة على جنوده، ويدفعهم للاستبسال في القتال أمام العدو، وخطبته التي قالها للجنود الفاتحين قبل معركة وادي لكة، والتي قال فيها: أيها الناس، أين المفر؟ البحر من ورائكم، والعدو أمامكم…. وهي رواية لا تصح ولم يروها إلا الإدريسي بعد خمسة قرون. وكذلك القصة المشهورة حينما وقف أبوعبدالله الصغير يبكي على تلة تطل على أراضي غرناطة بعد تسليمها للأسبان، ليسمع أمه الأميرة عائشة الحرة تخاطبه: ”ابكِ كالنساء ملكاً لم تحافظ عليه مثل الرجال“. وهذه القصة لم يثبت وقوعها، بل على الأرجح أنها لُفقت على يد المؤرخ والفيلسوف الإسباني أنطونيو دي جيبارا، الذي يعتبر الأب الروحي لفكرة تفوق العرق الأوروبي، وتطهير إسبانيا من كل ما هو غير مسيحي. والذي أثبت فعلاً وليس قولاً، بأن التاريخ يكتبه المنتصرون. ولَعمري إذا كان تاريخٌ، أوله نسج من الخيال العربي ولم تثبت صحته، وآخره تلفيق من الحقد الأوروبي ولم تثبت صحته كذلك، فجدير بنا النظر للتاريخ الأندلسي بنظرة فاحصة وأكثر واقعية وموضوعية وبعيداً عن العاطفة والنوستالجيا. ولا يفوتني في هذا البيان، التنويه بجهود بعض الباحثين الأندلسيين المعاصرين في إعادة دراسة تاريخ الأندلس دراسة أكاديمية موضوعية جادة من خلال الوثائق المتوفرة، ومن هؤلاء الباحثة الأندلسية الإسبانية المسلمة أديبة روميرو، التي تقطن في غرناطة وتعمل في جامعتها، ولها جهود واضحة في دراسة التاريخ الأندلسي.

المسلمون فتحوا بلاد الأندلس واستولوا على شبه الجزيرة الإيبيرية وتوقفوا عند شمال إسبانيا دون فتوحات، ما جعلهم تحت رحمة عدو كاره ومتربص لهم يتحيّن الفرصة في حال ضعفهم للانقضاض عليهم، ما جعلهم تحت تأثير ”لعنة الجغرافيا“، إذ كانوا في أقصى العالم الإسلامي ولم يكن لهم من ناصر أو معين إلا من بلاد المغرب، وقد أعانوهم أكثر من مرة خصوصاً في معركة الزلاقة مع يوسف بن تاشفين زعيم المرابطين، ولكن عندما ضعف المسلمون هناك وتشتتوا، وأصبح الأندلسيون في أسوأ حال من الفرقة والانقسامات والتآمر على بعضهم البعض، والركون إلى حياة الدعة والترف والبعد عن الإعداد للمواجهة، كل ذلك أدى لضعفهم الشديد وأصبحوا فريسة سهلة لعدوهم. لهذا أرى أن سقوط الأندلس كان أمراً محتوماً لا مفر منه، بل أن مكوث المسلمين هناك طال أكثر من المتوقع، فقد خاض الإسبان حرباً طويلة سموها ”حرب الاسترداد“ استغرقت قروناً لاستعادة كامل الأراضي الأندلسية.

بداية رحلتي كانت من ملقا، يمكن الوصول لها من مدريد عبر رحلة قطار سريع تستغرق حوالي 3 ساعات، وقد تتوفر رحلة مباشرة إليها في المواسم، المدينة شاطئية جميلة وتعتبر بوابة للشواطئ الإسبانية حيث لا تبعد شواطئ ماربيا الشهيرة سوى مدة ساعة بالسيارة، أمضيت يوماً في زيارة المدينة والتجول فيها، وليس هناك الكثير من المعالم والأنشطة تستحق الذكر فيها، وبالرغم من كونها مدينة أندلسية عريقة، لكن لا توجد بها معالم أندلسية للأسف، لكنها تعتبر بوابة للوصول للشواطئ الشهيرة كما أشرت. بعدها توجهت إلى إشبيلية وهي عاصمة إقليم الأندلس، وهي مدينة كبيرة وجميلة، تستحق الزيارة والمكوث فيها يومين أو ثلاثة، تقع على ضفاف نهر الوادي الكبير. زرت قصر إشبيلية الملكيRoyal Alcázar of Seville الحالي ”باللغة الإسبانية 'الكاثار': Alcázar“ أو قصر المورق أو قصر المبارك ”كما عرفه بنو عبَّاد“ مع مجموعة سواح بقيادة مرشد سياحي، القصر جميل جداً ومليء بالمعالم والتفاصيل المعمارية والفنية التي تستحق الزيارة وقضاء ساعتين فيه، ولاحظت في مرشدي السياحة المرخصين، أنهم ذوي تأهيل عال دراسياً وثقافياً، حيث يتطلب الحصول على شهادة مرشد سياحي مرخص، شهادة بكالوريوس في التاريخ أو العمارة واجتياز اختبارات عديدة بل وماجستير أحياناً، لذلك الاستماع للمرشد وسؤاله عن معالم المكان وتاريخه تعتبر متعة وتحدياً في نفس الوقت. بعده توجهنا لزيارة - كاتدرائية إشبيلية Catedral de Sevilla تحتوي كاتدرائية إشبيلية على برج لاجيرالدا el giraldillo, الذي كان من قبل مئذنة للمسجد في عصر الموحدين، يبلغ ارتفاع والبرج/المئذنة حوالي 100 متر، ومن طرائف ما قالته المرشدة السياحية أن برج الخيرالدة ”كما يسمونها“ بُنيت دون درج، ولكن بمنحدرات يبلغ عددها 35 يمكن من خلالها الصعود إلى البرج. وهذه المنحدرات عريضة بشكل كان يستطيع المؤذن أن يصعد إلى أعلى البرج وهو راكب على حصانه للنداء إلى الصلاة.

في اليوم التالي، زرت ساحة إسبانيا Plaza de España وهي بناء رائع وفيه ساحات فسيحة على النهر تستحق الزيارة والاستمتاع بغروب الشمس، الساحة عبارة عن ساحة نصف دائرية، تقع في منتزه ماريا لويزا، تضم ساحة إسبانيا أيضاً نافورة متميزة، يجتمع عندها السيّاح لالتقاط أجمل الصور.

من الجدير بالذكر أن العمارة الإسلامية ذات الطابع الأندلسي تتجلى بوضوح في هذه الساحة، خاصةً العمارة الإسلامية، لذا ستشعر وكأن الساحة في بلاد المغرب، إذ يتخذ الكثير من محبّي العمارة الأندلسية؛ السفر إلى إشبيلية وسيلة للاطلاع على هذه العمارة الفريدة.

في اليوم التالي، غادرنا إلى قرطبة، وللأسف كانت زيارة خاطفة لمدة ساعات نظراً لضيق المدة وازدحام الجدول والا المدينة تستحق المكوث فيها ليومين، ففيها الكثير من المعالم الجديرة بالزيارة مثل قصر قرطبة أو قصر الملوك المسيحيين Alcázar de los Reyes Cristianos

او الجسر الروماني في قرطبة Roman bridge of Córdoba أو مدينة الزهراء Medina Azahara وغيرها من المعالم.

كانت الزيارة مخصصة لزيارة كاتدرائية وجامع قرطبة Mosque-Cathedral of Córdoba الذي يعتبر من أبرز الأماكن السياحية في إسبانيا ومن أهم معالم الأندلس. كان المبنى سابقًا معبدًا وثنيًا، ثم أصبح في عهد القوط الغربيين كنيسة مسيحية، وتحول في عهد الأمويين إلى مسجد، إلى أن استقر أخيرًا ليصبح كنيسة كاثوليكية رومانية بعد حروب الاسترداد وتحول الأندلس إلى إسبانيا. أثناء تجوالي في المسجد/الكاتدرائية/المسجد شعرت بالألم والخسارة، فقد كان موطن العلماء والأدباء ومحل العلم التدريس، ومن غريب ما ذكره المرشد السياحي، أن اتجاه القبلة في المحراب منحرفة عن مكة، واختبرت ذلك بتطبيق القبلة بجوالي، وفعلاً ظهر الانحراف نحو الغرب، وقد قرأت في التاريخ أن مهندس المسجد هو حنش الصنعاني، ويذكر المؤرخون أن بعض الناس نصحوا الخليفة الحكم المستنصر، بتعديل انحراف القبلة القديمة لجامع قرطبة، وأراد تعديلها نحو الشرق، وشاور العلماء في ذلك، راجعه الفقيه أبو إبراهيم، وحذره فقال له: يا أمير المؤمنين، إنه قد صلى إلى هذه القبلة خيار هذه الأمة من أجدادك الأئمة، وصلحاء المسلمين، وعلمائهم، منذ افتتحت الأندلس، إلى هذا الوقت متأسين بأول من نصبها من التابعين كموسى بن نصير، وحنش الصنعاني، وأمثالهما رحمهما الله تعالى، وإنما فُضِّل من فُضِّل بالإتباع، وهلك من هلك بالابتداع ”. فأخذ المستنصر برأي هذا الفقيه، وقال:“ نِعم ما قلت، وإنما مذهبنا الاتباع"!. كذلك أشار المرشد إلى وجود قنطرة مغطاة يعبر من خلالها الخليفة من القصر إلى المسجد مباشرة وتسمى الساباط، ولفتني هذا الاسم كثيراً حيث ما زلنا نستخدمه في ثقافتنا المحلية بنفس المعنى.

المسجد تحفة معمارية دالة على جمال وروعة العمارة الإسلامية تجد فيه الطابع الأموي من الشرق مع بعض اللمسات الرومانية الغربية، التجول والتأمل في تفاصيله متعة بصرية وحسية تستحق التجربة، ولو أردت التفصيل في قضايا المسجد سيطول المقال أكثر مما ينبغي.

بعد انتهاء الزيارة كان وقت الغداء، توجهت للغداء في مطعم ”الأمويون“ الذي لا يبعد سوى أقل من 500 متر من بوابة المسجد، وقد كانت وجبة متميزة مليئة بالمتعة حيث كان المكان ينبض بالروح الأندلسية، ولم أذكر المطعم للدعاية له ”فهذا خلاف مقصدي“ بل كوني عشت تجربة جميلة فيه أحببت ذكرها.

بعد ذلك توجهنا إلى غرناطة التي تعني باللاتينية الرمانة، ومنذ لحظة وصولنا لها سحرتنا بجمالها الأخاذ والفاتن، فهي ذات طبيعة جبلية وتكسو قممها الثلوج في مشهد مهيب وجميل جداً.

في اليوم التالي، كان اليوم الموعود وهو زيارة قصر الحمراء Alhambra سبب تسمية هذا المعلم البارز باسم قصر الحمراء، فهناك من يرى أنه مشتق من بني الأحمر، بينما يرى آخرون أن التسمية تعود إلى التربة الحمراء التي يمتاز بها التل الذي تم تشييده عليها. يقال ان بناؤه استغرق 150 عاماً.

القصر عبارة عن مدينة كاملة على ربوة مرتفعة مما يعطيه هيبة وجمالاً تفوق الوصف وتجعله أيقونة ومن أعاجيب الدنيا التي تستحق الزيارة. بدأت زيارتنا للقصر مع مرشد سياحي حوالي 9:30 صباحاً واستمرت إلى ما بعد 12 ظهراً حوالي 3 ساعات، وقد كانت من أجمل الساعات في أجواء بين الغائمة والمشمسة في جو بديع وطبيعة خلابة وعمارة بديعة وآثار فاتنة. عند بداية الزيارة كان المكان مكتظاً بالسواح، وشعرت بغبطة كبيرة حيث تحقق الحلم أخيراً وزرت الحمراء بعد طول انتظار، تذكرت رائعة قباني في الحمراء: في مدخل الحمراء كان لقاؤنا ما أطيب اللقيا بلا ميعاد. القصر مليء بالتفاصيل الجميلة من نقوش ورسوم وكتابات حيث يطفح القصر بعبارة ”لا غالب إلا الله“. بعد زيارة قصر الحمراء توجهنا لجَنَّة الْعَرِيف ”بالإسبانية: Generalife“ عبارة عن قصر يقع بالقرب من قصر الحمراء. ويوجد بها أربعة بساتين. كانت هذه البساتين تمتد في شكل تدريجي مختلف المستويات تحت القصر، مما كان يضفي على الشكل العام روعة وإبداعا. بعد ذلك توجهنا لحي البيازين الشهير القريب من قصر الحمراء، تجولنا في الحي الذي يعتبر من الأحياء السياحية حالياً، تذكرت رواية ”ثلاثية غرناطة“ حيث كان كثير من الأحداث تدور في هذا الحي المنكوب، فقد احتضن الموريسكيين بعد تسليم غرناطة للقشتاليين وكان موطن معاناتهم وآلامهم والجرائم التي نزلت بهم.

بعد انتهاء زيارة القصر والحي توجهت إلى سوق ”القيصرية“ Alcaiceria القيصرية غرناطة

هو سوق بغرناطة من العهد الأندلسي القديم، يباع فيه التحف والملابس والزعفران. وهو سوق شعبي سياحي يستحق الزيارة والمشاهدة. بعدها تجولت في شوارع غرناطة الجميلة جال في خاطري قصيدة أبي البقاء الرندي الشهيرة فاستمعت لها كاملة في اليوتيوب، حيث نظم هذه القصيدة ليستنصر أهل العدوة الإفريقية من المرينيين عندما أخذ ابن الأحمر محمد بن يوسف أول سلاطين غرناطة في التنازل للإسبان عن عدد من القلاع والمدن إرضاء لهم وأملاً في أن يبقى ذلك على حكمه غير المستقر في غرناطة وتعرف قصيدته بمرثية الأندلس. يقول في مطلعها:

لِكُلِّ شَيْءٍ إِذَا مَا تَمَّ نُقْصَانُ
فَلَا يُغَرَّ بِطِيبِ العَيْشِ إنْسَانُ

إلى أن يقول:

تبكي الحنيفيةُ البيضاءُ مِن أسفٍ
كما بكى لفراقِ الإلفِ هَيمانُ

عَلى دِيارٍ مِنَ الإِسلامِ خالِيَةٍ
قَد أَقفَرَتْ وَلَها بالكُفرِ عُمرانُ

إلى أن يختم رائعته بكل حرقة ولوعة:

لمِثلِ هذا يذوبُ القلبُ من كمدٍ
​إنْ كانَ في القلبِ إسلامٌ وإيمانُ.

عند وصولي إسبانيا، راودتني مشاعر مختلطة لم أشعر بها في أي تجربة سفر سابقة، شعرت بالفرحة لزيارة البلد التي كنت أنتظرها منذ زمن طويل، ولكني شعرت كذلك بغصة خفيفة مكبوتة غير مفهومة، استغربت منها رغم أن كل الظروف كانت مريحة ومواتية، ولكني عرفت سببها عند وصولي إشبيلية ومن بعدها قرطبة حيث زاد الشعور بالألم بداخلي وبلغ ذروته في غرناطة وأنا أتجول في حي البيازين أسفل قصر الحمراء، أتساءل.. هل هي هواجس وآهات وآلام المسلمين في تلك البلاد؟ لا أعلم... لكني عايشت هذا الشعور المختلط طوال مكوثي في مدن الأندلس.

بعد غرناطة، توجهنا إلى مدريد ”كانت تسمى مجريط إبان حكم المسلمين“ المحطة الأخيرة، وهي مدينة كبيرة وجميلة، ليس بها الكثير من المعالم السياحية، ولكن سوقها جميل ومتنوع، تجولنا بها في الباص السياحي للاطلاع على معالمها المهمة. ومنها رجعت لأرض الوطن.

تجربتي في إسبانيا كانت غنية ومليئة بالمتعة والإثارة والغوص في التاريخ والاطلاع على حضارة إسلامية عريقة، كانت زيارة قصيرة وخاطفة ولكنها كانت مفعمة بالأحداث والذكريات والمشاعر.