التضاد بين السلطة والنهضة
المقاربة المألوفة، في معظم الحضارات الإنسانية، منذ بداية التاريخ، تشير إلى التلازم بين خطي السلطة والنهضة، بمعنى أن وجود امبراطورية قوية هو شرط لازم لتحقيق النهوض. وقد كان ذلك صحيحاً إلى حد كبير، في الحضارة العربية الإسلامية، إبان العصرين الأموي والعباسي.
لقد اتجهت الجيوش العربية منذ أيام الخلافة الراشدة، إلى التخوم الشمالية للجزيرة العربية، ودخل العراق وبلاد الشام ومصر في دار الإسلام، منذ عهد الخليفة عمر بن الخطاب. وقد سهلت لهم معرفتهم بتضاريس تلك البلدان وطرقها فتحها، مؤكدة عمق التواصل التاريخي بين الجزيرة العربية والبلدان التي بلغها الفتح العربي. ولم يكن من المتصور، تكلل معارك الفتح بالنصر المؤزر، لولا المعرفة العيانية بتلك البلدان.
وكان من نتائج الفتوحات العربية، أن اعتنقت أمم كثيرة الإسلام، وقبلت أخرى بالعروبة هوية وبالإسلام ديناً ومحتوى ثقافياً. ويوضح ذلك التواصل، أسباب التماهي السريع للشعوب العربية مع عقيدة التوحيد، واستجابة الشعوب التي دخلت دار الإسلام حديثاً للتفاعلات الفكرية، والمذهبية والفقهية، وقبول العرب على اختلاف مناطق وجودهم، نتاج مدارس الكوفة والبصرة وبغداد والقيروان، وانتشار المذاهب التي نشأت جميعاً في العصر العباسي، وتمركزت في بغداد والحجاز، وفي أرجاء المدن العربية، إلى معظم الدولة العربية الإسلامية، حتى الأندلس.
وبالمثل انتشرت بسرعة، المدارس الفكرية والفلسفية التي تكونت في ظل الحضارة العربية. وكانت تلك المذاهب في تعبيراتها، انعكاساً موضوعياً للصراعات السياسية والاجتماعية، التي شهدتها دولة الخلافة في العصرين الأموي والعباسي، كمدارس المرجئة والأشاعرة، والجبرية والقدرية، وقد وجدت من يتبناها ويدافع عنها، على امتداد الساحتين العربية والإسلامية.
فمدرسة المعتزلة، على سبيل المثال، وضع قواعدها واصل بن عطاء، بمدينة البصرة، لكنها انتشرت سريعاً، وتطورت في بقاع أخرى من ساحة الحضارة العربية، كما انتقلت المذاهب الفكرية الأخرى، التي أشرنا إليها، لينتج عنها تراث خالد متنوع، مثل مختلف التيارات الفكرية والفلسفية العربية. وصدر في وقت لاحق، كتاب «تهافت الفلاسفة»، لأبي حامد الغزالي من بلاد فارس، شرقاً، ليرد عليه، أبو الوليد محمد بن رشد في كتابه «تهافت التهافت» بالمغرب أقصى ما بلغته الحضارة العربية الإسلامية غرباً. وكان أن صدر في ما بعد كتاب «المقدمة» للعلامة عبدالرحمن ابن خلدون، من تونس بالمغرب العربي ليضع اللبنات الأساسية في علم الاجتماع.
وعلى الصعيد الأدبي، كان هناك تواصل عبّر عنه الشعر والنثر العربيان، في حلقات مستمرة متواصلة، منذ شعر زهير بن أبي سلمى وعنترة، وعمرو بن كلثوم، وغيرهم من شعراء المعلقات قبل الإسلام، إلى عمر بن أبي ربيعة والأخطل وجرير والفرزدق، ودعبل الخزاعي وأبي نواس، وأبي تمام والبحتري، والمتنبي، إلى الأندلس، حيث ابن هانئ وابن زيدون، والموشحات الأندلسية... وقد نقل لنا ذلك الأدب الرفيع، في رحلات بإيقاعات جميلة، ونبض مثل التاريخ، في حركته وتطوره، من الحجاز إلى الشام والعراق ومصر والأندلس، ولتحتفظ مكتباتنا العربية، والمراكز العلمية في العالم، بتلك الكنوز، حتى يومنا هذا.
والملاحظ على غير العادة، أن تجليات الثقافة العربية، برزت بشكل مثير للإعجاب، مع تداعي دولة الخلافة العربية، وهي حالة جديرة بالقراءة والتأمل، إذ المألوف أن يكون هناك توازٍ في الصعود والتداعي، بين خطي النهضة والسلطة. فعلى سبيل المثال، ارتبطت في بلاد الإغريق تجليات الثقافة اليونانية، وبروز فلاسفتها بتوهج تلك الحضارة، وقوة سلطانها. وحين تداعى سلطانها، وتمزقت وحدتها، برزت المذاهب الأبيقورية والرواقية واللاأدرية، التي نظّرت لقبول الهزيمة والاستسلام، لكنها حققت التوازن النفسي، للشعب الإغريقي المهزوم، حين حلت المتعة والفرح، بعيداً عن الكد والنضال.
هكذا نلحظ التوازي بين خطي السلطة والنهضة في بلاد الإغريق، أما في البلدان العربية، فإننا لا نلحظ توازياً بين خطي النهضة والسلطة. ففي الوقت الذي تداعى فيه، السلطان السياسي، وتمزقت الخلافة العربية الإسلامية، إلى إمارات وممالك وأخذ خطها البياني بالنزول إلى الأسفل، نرى أن الخط البياني للنهضة ظل مستمراً في صعوده، مبرزاً أسماء لامعة في التاريخ العربي، كابن سينا، والرازي والفارابي، وابن النفيس، وابن ماجه، وابن الهيثم، والكندي، والإدريسي، والمتنبي، والمعري، وابن خلدون، والغزالي، وابن رشد. وهذا يعني، أن انهيار الدولة العربية الواحدة، وبروز الممالك على أنقاضها، لم يعبر عنه بانقطاع ثقافي عربي. إن الثقافة العربية، قد نمت بفعل مجموعة من التفاعلات الموضوعية، التي منحتها القدرة على الاستمرارية، حتى في ظل ضعف السلطان السياسي.
والتفسير المنطقي، والممكن، هو أن تلك الثقافة لم تكن رديفة للسلطة السياسية، وإنما كانت تعبيراً عن وجدان أمة لم تجمعها الجغرافيا واللغة فحسب، بل ارتبطت بشحنات عاطفية أسهم في إذكائها الموروث الديني والثقافي والفكري والأدبي والفني للأمة العربية. وقد استمد الشعب العربي، في بنيته التحتية، ونخبه الفكرية، من تلك الشحنات سياجاً واقياً لحماية هويته من التفتت، رغم حالة الضعف السياسي الذي منيت به الأمة. وحين انبثق عصر الأنوار الأوروبي، تلقفت المدارس والجامعات الأوروبية، ذلك الإرث وبنت عليه، وهكذا هي مسيرة الإنسانية دائماً يتداخل فيها الجديد بالقديم.