آخر تحديث: 23 / 11 / 2024م - 4:07 م

حبيب المعاتيق.. أيقونة «الخميس» الشعرية

كاظم الخليفة * مجلة اليمامة

الشعر أغنية، تتردد مفرداتها على وقع وجيب الروح. تنساب رقراقه داخل الحنايا؛ وكأنها تسقي أرضاً يبابا انحبس عنها ماء الحياة؛ بفعل الشواغل اليومية وهموم طلب المعيشة. فحينما تمسك بيديك النص الشعري المكتوب، فأنت تقربه تارة من عينيك لأن رمشهما قد انطبق لبرهة حتى يترك لصورة الكلمات أن تتغلغل داخلك. وتارة تميل بجسدك على هيئة المحتضن للكتاب، وأحياناً أخرى تقفز مستفزاً لأن بعض الجمل الشعرية برقت لوهلة وحلقت بك نحو الأعالي.

هذا عندما تقوم بقراءة النصوص الشعرية التي تقترب من ذائقتك، أو حينما تلجأ إلى الشعر في سعيك للتعبير عن حقيقية مشاعرك وعواطفك التي هيضها شغب الحياة أو تحرشت بها أسئلة الوجود. لكن أنت في سماعك للشعر، هو غيرك عند قراءته؛ فالشاعر هو من يعفيك عن كل ذلك. تتسمر في مقعدك إلى درجة إحساسك المفاجئ بخدر في رجليك، بينما مخيلتك تكتظ بما ينطبع عليها من صور، وتنضبط نبضات قلبك وفق“نوتة”الجمل الشعرية. وقتها، تنفتح حاسة السمع لديك حتى أقصاها، وتنساب الكلمات كنغمات مموسقة. فهذا بالضبط ما يمارسه عليك الشاعر حبيب المعاتيق في مقاطعه المرئية والمسموعة كل خميس، على برنامج السناب شات والإنستغرام، وبقية وسائط التواصل الاجتماعية.

يطل مساء نهاية كل أسبوع، وهو راكباً سيارته، مرتدياً“بدلة”عمله في إشارة إلى رغبة حقيقية لتحرر الذات من شواغل العمل، ومتطلبات الوظيفة التي طالما أرهقته: «يؤرقني الدوامُ؛ غداً خميسٌ / فمن لقريحتي لو أرّقوها. / أقامتْ في في قيود الشغل دهراً / فما ضر المدى لو أطلقوها».

يدعوك في الخميس أن تخطو باتجاه روحك، تمارس شغفك، ترتد إلى شخصيتك الحقيقية والمشتهاة، تنتقل من تعب الجري وراء لقمة العيش إلى تذوق حلاوتها بانفتاح ذاتك على وقت رفاهيتها ومتعتها في عطلة نهاية الأسبوع، ويختار من قصائده تلك التي تتغنى بالحب وتهمس بالجمال. يهيئك بأن تتحر من مادية الحياة؛ كما سعى هو، للتخلص من لغة الأرقام والعمل المحاسبي؛ باستحضار طيف الحبيبة وتخيل مشاركتها له في بيئة عمله:

يا أنتِ، يا رئَةَ النَّجْوى وحِكمَتَها / وحقَّ أجْملِ أشْعاري وبَاطِلَها. / أجيءُ، من لُغةِ الأرقَامِ أقسِمُني / وأطْرحُ اللغَةَ السودَاءَ كامِلَها. / وأضربُ اللفظَ والمَعنَى بصَاحبهِ، / أمْنُ القصيدةِ أنْ أُذكِي قَلاقِلَها. / وثمَّ أجْمعُ إحسَاسِي وعَاطِفَتي / فتَطلُعينَ على الأوْراقِ حَاصِلَها».

في الخميس يحرضك للنزوح بروحك ناحية إشباع عواطفك الإنسانية؛ برفقة عائلتك وأصدقائك.. إلا مقطع شعره الأخير عن والدته «رحمها الله» المتوفاة قريباً. يتخلى عن عادة بثه المباشر لأشعاره، ويلجأ إلى مقاطع من أمسية شعرية سابقة له كان موضوعها“الأم”. تراه متحرراً من بدلة العمل التقليدية ومقود سيارته أيضاً. يتحرك على المنصة ويهتز جسده على وقع كلماته التي يتغنى فيها بعواطفه نحو والدته. تتسع حدقة عينه وكأنها تهم باحتضان طيفها. ذلك هو نصه“أمي.. تباريحٌ كونية”؛ الذي وطأ له بمقدمة نثرية: «حين أشاهد أمي تهز رجليها كمن يهدهد وليدا؛ وهي تغني“يا طيبين اللبن”أعلمُ أنها قلقةٌ جدا على أحد إخوتي».

يستحضرها من خلال ذاكرته الطفولية التي كلما نمت، انحبس الزمن وتوقف على العهد الطفولي، ولا تمده أبداً عن زمني الشباب والكهولة:

«لا تزالين على عتمة أيامي الشعاعْ. / يا أمان العالم / الطفلُ أنا، / ما زال يا أمي إذا أفلتَ من“ملفعك”البُنيِّ ضاعْ. / عشتُ في زنديك أحلام صغار الطيرِ / كان الحلم الأكبرُ / لو باغتني البرد ذراعْ».

فغطاء الرأس الطويل والمنسد على جسدها - الملفع - هو خيمته التي تأويه من هجير الحياة ومصاعبها. درعه الذي يتمترس به للوقاية من سهام القدر. ولهذا يمعن حبيب في اشتغاله التعبيري الشاعري على“ملفعها”؛ كاستعارة يوظفها للتشبيه بضيق الوجود واتساعه. أوجاعه التي تتخفف بمجرد شعوره بالاحتضان: «فصَّلتني إبرة الأيام جلباباً / بحجم الشوق فيك، / فتمزقت كثيرا / كلما الجلباب ضاقْ».

ومن ناحية أخرى، فعندما تحضر الأم، تنحني اللغة وتتواضع. تقترب من بساطتها وعفويتها، بل يصبح اقتباس بعض النصوص الشعبية الموروثة التي كانت تتغنى بها الأمهات ووضعها في النص، دلالة على أن البوح قد رق، أو هي الرغبة في تمرير صوتها متجسداً في القصيدة عندما كانت والدته تردد ذات يوم:

«يا طيبين اللبن بالزين ما احلاكم / وإذا غبتوا عن العين حاشا القلب ينساكم / وشلون أنساكم يبعد أهلي واتسلى“بحجاياكم”.. لولو.. لولو.. لولو». وهنا يختم شاعرنا حبيب نصه الجميل: «وينام الليل مطويا على فيض المآقي / وأنا / أغمضتُ عينيَّ على الدمع / ولكن لم أنمْ».

أخيراً، لنا أن نرى تموضعاً جديداً للشعر في حياتنا اليومية من خلال ما وفرته وسائط التواصل الاجتماعية، وحيث أنه أصبح أقرب وصولاً لجميع شرائح المجتمع، والأكثر مقدرة على تعبير عن مشاعرنا وعواطفنا. لذا ننتظر اطلالة الشاعر حبيب كل خميس؛ ليطلق“مدافع العيد”إيذاناً بدخول وقت المرح.