إدارة الكمال
يفكر حمد في دعوة أصدقاء الدراسة على مائدة عشاء ليعيد معهم ذكريات الزمن الجميل بعد سنوات عديدة من تخرجهم، ويرغب حمد بأن يلم شمل هذه المجموعة على مائدة عشاء في إحدى استراحات العمارية بالعاصمة الرياض، إلا أن هذه الدعوة لم تتم حتى الآن بسبب صعوبة إيجاد الوقت المناسب للجميع، وصعوبة توافق ذلك مع حجز متوفر للاستراحة المفضلة لديه، وتوافق ذلك مع الطقس المناسب أيضاً لهذه الدعوة المنتظرة منذ سنين، حتى هذه اللحظة والأمر مؤجل وغير محسوم، كل ذلك لرغبة حمد الصادقة في جمع كافة أصدقائه في أفضل الظروف في ليلة شتوية رائعة تظل في الذاكرة. مرت الأيام، واستمر التأجيل، حتى نُسيت الفكرة وانشغل عنها الجميع، فلم يتم هذا اللقاء بين الأصدقاء، لا في استراحة مميزة، ولا في مجلس المنزل، لا في الشتاء ولا في الصيف، لا بحضور الجميع ولا حتى بحضور نصف العدد، كل ذلك لإصرار حمد على الكمال عوضاً عن الإنجاز! أراد تنظيم لقاء تلتقي فيه أفضل الظروف، وأصر على ذلك حتى وقع في مصيدة التأجيل بسبب عدم رضاه عن إقامة لقاء قد يشوبه بعض النقص، التأجيل الذي قاد في نهاية المطاف للانشغال عن الأمر حتى ذهبت الفكرة أدراج الرياح.
هذا السيناريو البسيط يتكرر على الطموحين الراغبين في التميز في شتى جوانب الحياة، فكم من مشروع تأخر بسبب السعي للكمال، وكم من كتاب لم يرى النور لمراجعات كاتبه اللامتناهية، وكم من مُنتَجٍ تقني لا زال في الأدراج، بسبب اهتزاز ثقة مطوّره الذي يظن أن المنتج ليس بالشكل المطلوب بعد.
السعي للكمال في أصله أمر عظيم، فهو يدفعنا لتقديم أفضل ما لدينا، إلا أن ذلك يجب أن يتضمن وعيًا ذاتيًا بعدم قدرتنا على بلوغ الكمال! ما نقدر عليه هو السعي بقدر معين ومتزن للكمال، والتوقف عند القدر الجيد بشكل كافِ للإنجاز، والإنجاز مقدّم على الكمال في كثير من الأمور. لكن، كيف لنا أن نقف عند هذا الحد الفاصل في مهامنا العملية؟ هنالك شقين للإجابة على هذا التساؤل: الأول هو الشق الإدراكي والمرتبط بالوعي، الثاني هو الشق العملي والمرتبط بتقنيات عملية تدفع باتجاه الإنجاز مقابل السعي للكمال.
على الصعيد الأول“الإدراكي المرتبط بالوعي”، يجب أن نكون مدركين ومتقبلين لحقيقة أن عملنا سيشوبه النقص لا محالة، مهما طالت ساعات العمل عليه، وما نقوم به من جهد هو لتقليل النقص في عملنا بقدر الإمكان، يجب أن ندرك أيضاً أن ما نعتبره غير ناضج من أعمال، قد تكون كافية بشكل كبير لمن ينتظرها منا، سواء كان مديراً تنفيذيًّا بانتظار شرائح عرض لحالة أحد المشاريع، أم مديراً ماليًّا بانتظار ملف إكسل لقائمة الدخل. يجب علينا أن نتصالح مع مسألة تلقي النقد على أعمالنا، فلا يصبح هاجسنا الأول هو الخوف من الملاحظات التي قد تأتي على أعمالنا.
على الصعيد الثاني“العملي”، تنصح الكاتبة والمحاضرة الجامعية «ربيكا نايت» بعدة خطوات عملية تمكننا من إدارة السعي للكمال.
أول هذه الخطوات أن نضع نطاقاً زمنياًّ محدداً لإنهاء العمل، أن نحدد كم من الوقت فعلاً تستحق هذه المهمة أو تلك، فإن كان هنالك متسع من الوقت في يومنا لسبعِ ساعات مثلاً، فهذا لا يعني بالضرورة أن نُسخّر هذه السبع ساعات لعملٍ لا يستحق منا واقعاً أكثر من ساعتين، تقديرنا ثم تحديدنا لهذه المدة سيدفعنا تجاه التركيز والإنتاجية العالية.
ثاني هذه الخطوات العملية، هو أن نستخدم ما يتوفر لدينا من موارد سابقة متاحة من شأنها التسريع من وتيرة العمل والوصول لقدرٍ عالٍ من الجودة في وقت أقصر.
ثالث الخطوات العملية، هو وضع قائمة بكل ما علينا مراجعته ضمن المهمة الحالية، وهذا يُجنّبنا المراجعات الّلامتناهية والتفكير في إيجاد ثغرات مختلفة.
رابع الخطوات، أن نسأل أنفسنا، ما هي القيمة المضافة المحتملة حال عملنا لوقت إضافي؟ هل ستضيف الساعة الإضافية للعمل على تقرير ختام المشروع فرقاً ملحوظاً؟ إذا كانت الإجابة بلا، فتجنب ذلك وتوكل على الله وقم بمشاركة هذا التقرير أو عرضه، والإشارة هنا لمن يعاني من الحرص الزائد عن حدّه، ومن يتسبب سعيه للكمال في تأخر الإنجاز أو انعدامه، فلا ينبغي لهذه الخطوة أن تكون ذريعة لمن بالكاد يقوم بالحد الأدنى من عمله!
ختاماً، من المهم التفريق ما بين إنجاز أمرٍ يومي روتيني متكرر، ومهمة قد تتكرر بشكل ربع سنوي، وأخرى قد تكون سنوية وتتطلب جهداً أكبر ممّا سبقها، من الحكمة التفريق بين ما نبذله من وقت في الأعمال الإبداعية مقارنة بغيرها، الظروف المحيطة لها دور في تحديد توجهنا نحو الأعمال، وضمن هذا السياق أستحضر مقولة لأستاذي الجامعي أثناء مرحلة الدكتوراه، حيث كان يردد علينا في اجتماعاتنا الدورية لمتابعة الأبحاث، المقولة التالية:“إنّ أفضل بحث هو البحث المكتمل! ”، ويعني بذلك أنّ الأولوية لنا حينها كباحثين في برنامج دكتوراه، هو أن ننجز ونتم أبحاثنا بما يتوافق مع أسس البحث العلمي، ولكن بما يتناسب مع الإمكانات المتوفرة والسنوات المتاحة، وإن كان هنالك من طموحات عالية وأفكار بحثية تتطلب سنوات بحثية أكثر، وميزانية أضخم، فسيأتي وقتها بعد التخرج، وهو الذي يشكّل الأولوية الحالية.