آخر تحديث: 21 / 11 / 2024م - 11:52 ص

سرّ المقبرة

عبد الباري الدخيل *

تغادر «منيرة» صالة المطار، متجهة لمواقف السيارات تحمل على كتفها حقيبة صغيرة، وتتلفت تبحث عن عمّتها التي وعدتها أن تكون في استقبالها.

‏جاءت يصاحبها شعور عميق بالوحدة.. فالوحدة تحاصرها.. وهي تمشي، وهي تأكُل، وهي تستحم، وهي تُشاهد الأفلام، تشعر بالوحدة حتى وهي تمشي بين كل هؤلاء الناس.

يلوّح لها شاب بيده، كان طويلًا قليلًا، لون بشرته بيضاء لكنها غير صافية، شعره قصير جدًا، تبدو عليه ملامح الجدية حتى وإن ابتسم، عضلاته المفتولة تشاهد تحت الثوب، أقبل عليها مُظهرًا سعادة غامرة وكأنه يستقبل أخته.

تسأله عن عمتها فيشير إنها تنتظر، يفتح باب السيارة المرسيدس السوداء لتجد عمتها فتحت ذراعيها تستعد لاحتضانها.

ولدت «منيرة» في العاصمة، وفيها ترعرعت، ولم تزر قريتهم ولا مرة من قبل، حتى عندما توفي أبوها وأوصى أن يدفن في مقابرها، لم ترافق الجنازة حسب طلبه.

اختصرت العمة الحديث بجمل الترحيب، ولاذت بالصمت بقية الطريق.

العمة أم سلمان امرأة ستينية، فيها سمنة وجمال وخفة دم، عيناها ثاقبتان، تكاد ترى ما خلف الكلام، وجهها قمري، خدّاها تفاح لبناني، شفتاها مكتنزتان، تعاني فقط من آلام في الركبة تجعلها تميل للجلوس كثيرًا، وقد قابلتها مرتين أو ثلاث في العاصمة، كانت تأتي لزيارتهم بعد مراجعة المستشفى.

على أعتاب الذكريات تمشي «منيرة»، هاهي تصل للقرية الجزيرة التي ولد فيها أبوها وعاش فيها أجدادها، البحر الهادئ من جهتي الطريق، الجو في الشهر الأول من السنة يكون معتدلًا، طقس خريفي في الشتاء.

في مواقف السيارات توقف فتاة سيارتها فتترجل الراكبة وهي تشير بيدها ترفض الموضوع بتاتًا، فتتبعها قائدة المركبة تأمرها بأن تصغي قبل أن ترد الفكرة، تتبعهم سيارة أخرى تقف ويترجل منها شابان يستنكران ما فعلته الأولى ويجددان الدعوة للتفكير والتروي.

الأولى: لن أغلق على عقلي الباب، أنتم عودتمونا على الحوار.

الثانية: ومن طلب منك إغلاق عقلك.. المطلوب فقط التريث.

الثالث والرابع ينظران، تسألهم الأولى: وأنتما ما رأيكما؟

الثالث: ليس لي رأي

الرابع: أنا معك.. لكن.. يجب ألا نستعجل الحكم.

الأولى: لأنها فتاة فأنتما تميلان لاستقبالها.

الرابع: ولأنها فتاة أنت تغارين منها.

الأولى: أنا لا أغار من أحد، كفاءتي تفرض نفسها.

الثانية: إذًا لماذا كل هذا الحوار؟

الرابع: إنها تخاف على منصبها في الشركة.

يقطع حديثهم توقف السيارة السوداء وتُفتح النافذة، العمة تسأل إن كان هناك ما يستدعي المساعدة، الفتيات والفتيان بصوت واحد يدعين للعمة: سلامتك.

ماذا بكم؟

الثالث: لا شيء فقط أحاديث جانبية.

العمة: لم توضع الطرق للأحاديث، هناك مجلس اذهبوا له وانتظروني، لدينا ضيفة.

تتحرك السيارة وخلفها سيارتان كأنه موكب.

لم يكن بيتًا عاديًا، بل كانت مزرعة يتوسطها قصر ضخم مكون من ثلاثة أدوار، تحيط به الأشجار من كل جهاته ماعدا الممر الذي يتسع لسيارة فقط.

كانت جنة من النخيل والأشجار المحلية بأنواعها وأحجامها المختلفة، بالإضافة للحشائش والخضروات.

صياح الديكة وتغريد الطيور وزقزقة العصافير تختلط مع رغاء البقر ومواء القطط ونباح الكلاب.

وروائح الزهور الموسمية، والياسمين الهندي، والريحان البلدي تعبق في المكان.

أسئلة أعدتها لتسألها العمة بعد أن تستقر.

ولم تكن هذه المفاجأة الأكبر فقد كان ينتظرها منظر لم تتوقعه، فقد قابلت عمها حسين الذي كان يشبه أباها تطابق الصورة بالصورة.

لولا بعض الجدية في ملامحه، والنظارة، والثوب الذي لم تشاهد أباها يلبسها أبدًا، والعصا التي يتكأ عليها، لظنته هو.

صافحها ورحب بها بعبارات جافة، كادت تقتل متعة اللقاء، وأنقذ الموقف تدخل عمتها ودعوتها للراحة في غرفتها حتى موعد العشاء.

في المساء رأته يأكل التمر ويلعق أصبعه، يرفع رأسه فيراها تتأمله، فيعتذر ويسحب منديلًا يضع فيه نواة التمرة، فتتذكر أن والدها يفعل نفس الشيء وتنهره أمها: ”حساااااان ألف مرة قلت لك لا تفعلها الأطفال يقلدونك“، فيعتذر ويسحب منديلًا يجفف أصبعه ويضع فيه النواة.

لم تقتنع منيرة بكل ما ذكر لها عن سبب طلب والدها أن يدفن هنا، في القرية، فكل تبرير تعدّه أقل من الآخر ولا يرتقي للتصديق، وقد أخذت تبحث وتسأل خارج أسوار المنزل، لكن النتائج مخيبة، والإجابات متشابهة: ”الإنسان يحنّ لوطنه الأول، ولأرض ميلاده“.

تهمس مع نفسها: هل هذا تبرير مقبول يجعل أبي يتذكر أن عنده أهل ومقبرة بعد غياب أكثر من أربعين عامًا؟

ذات مساء التقت بإحدى الفتيات في المطبخ، أوقفتها وسألتها بصوت حازم:

- لماذا جئتي؟

- هذا بيت الأسرة ولي فيه كما لك.

- لماذا الآن؟

- لا أعلم، هي الظروف تصنع التوقيت.

- هذا المكان لا يناسبك عودي سريعًا.

- جئت أبحث عن قبر أبي، وسأعود للعاصمة.

قطع الحديث مرور العمة، ونظرتها الحادة للفتاة، وطلبت من «منيرة» أن تتبعها.

في طريقها لغرفتها أخبرتها عمتها ألا تشغل بالها بأي شيء، وحذّرتها من الانسياق لتفاهات بعض البنات هنا.

بعد مضي أكثر من عشرة أيام قضتها «منيرة» بين بحث وتظاهر بالتصديق، ‏ استطاعت خلالها أن تُبقي ذهنها سليمًا منتبهًا، وهكذا عجز أي شيء عن جعلها تستسلم لليأس، ولم يتوقف البحث في السطور وما بينها، داخل الصورة وخارجها، في النص والهامش.

قررت مساءً أن تحسم شكّها بيقين، وأن تخطوا خطوة خارج الحدود، وتواجه رأس العائلة مباشرة، فتوجهت لعمها في مكتبه الخاص القريب من المجلس الكبير، وقالت له بكل إصرار:

- أنت أبي حسن.

- أنا عمك حسين وأنا كأبيك حسن.

- بل أنت أبي حسن.

- لا..

- لن تشبهه حتى في العادات والسلوك، فقد شاهدتك ترتبك عندما لعقت أصبعك، كما كنت أمام أمي.. ثم تلفتت تنظر لزوايا المكتب وأكملت: قبل أمس سألتك العمة: ”شايك برد“ فأجبتها ”أحبه بارد“ وفي الصباح سألتك إحدى الفتيات عن نور غرفتك في الليل، فقلت أنك لا تحب النوم في غرفة مظلمة، كيف عشت بينهم كل هذه السنين ولم يلحظوا عاداتك؟

- يجب أن تكون المعلومة حسب الحاجة.

- هكذا كنت تقول لأمي ”المعلومة لمن يحتاجها“.

- تركها قاصدًا المغادرة فاستوقفته وقالت: المعلومة التي أبحث عنها.. لماذا؟

- معرفة الأمر في حينه سيكون أجمل. وغادر.

- كيف أصدق أن أبي قد مات؟ نحن الفتيات نعتقد أن الآباء لا يموتون.. سأذهب للعمة، فصدرها يسع الكون، وقلبها يعانقني قبل يديها.

وكأن العمة كانت تنتظرها في غرفتها، ما أن دخلت عليها «منيرة» حتى فتحت ذراعيها وطلبت منها أن ترتمي في حضنها، وأجرت عليها سيلًا من جمل الترحيب والحب والشوق والدعاء لوالدها بالرحمة ولأمها بالسلامة.

رفعت منيرة رأسها من حضن عمتها ووجهت سهام عيونها مباشرة لعيون العمة وسألت: هل مات أبي حقًا؟

العمة: رحم الله موتى المسلمين.

- ومن الذي في المكتب الآخر؟

- إنه عمك وهو كأبيك.

- بل هو أبي حسن، كل الدلائل تؤكد أنه هو، يا عمتي.. لن يتشابها في كل شيء حتى لعق الأصابع، وإضاءة نور خفيف أثناء النوم، ونسيان الشاي حتى يبرد.

- حاولت العمة أن تشغل تفكيرها بأمور أخرى، وأن تلعب معها لعبة الإلهاء، وتبعدها عن جوهر القضية، حتى لو اضطرت أن تشككها في قواها العقلية، لكن منيرة لم تستسلم، بل كانت تعود بكل قوة وسلاسة وكأنها ميسي إذا هرب من المدافعين، وعندما تعبت العمة من المراوغة، واكتشفت قوة خصمها، ابتسمت وقالت: أنت فتاة ذكية كعمتك، ثم ربتت على كتفها وأكملت: فيك من أبيك جماله وروحه الوثّابة، ومن أمك ثقتها بنفسها وجرأتها في الحق.

- بعيدًا عن هذا الثناء.. أكملت وهي تزيح خصلة من الشعر تدلت على عينها: ماذا حدث لعمي حسين؟

- أعادتها العمة لحضنها وأخذت تمسح على شعرها الأسود الطويل: لقد مات عمك رحمه الله في حادث مروري، وغيابه عن مسرح الأسرة وساحة العمل يضعفنا وقد يؤدي لانهيار شركاتنا.

- لهذه الدرجة؟

- نعم.. لا تتصورين ماذا كان يمتلك عمك من شخصية قوية فاعلة نشيطة، ورؤية ثاقبة رشيدة.

- رحمه الله

- هذا المنزل الذي ترينه من الظاهر وسط بستان هو الإدارة.. من هنا تدار هذه الشركة الضخمة التي تتعامل مع كل الدول تقريبًا.. استنشقت نفسا عميقًا وأكملت: من هنا نتابع كل الشركات وفروعها في البلد والبلدان المجاورة..

- هذا بيت أم خلية نحل؟

- ولكي نحافظ على هذه الثروة والأعمال وتماسك الأسرة نحتاج وجود حسين ولو بالاسم، وقد قرر كبار الأسرة أن يحل حسن مكان حسين حتى تعبر السفينة هذا المخاض.

أخذت منيرة الهاتف تُحدث والدتها: ماما كان أبي يقول: أخفي ذهابك وذهبك ومذهبك، وقد كشف ذهابه الأخير كل شيء.

أخذت العمة الهاتف وقالت: ألم أقل لك لا تخافي؟ إنها ابنة أبيها.