آخر تحديث: 21 / 11 / 2024م - 6:12 م

العلم والهوية

يوسف مكي * صحيفة الخليج الإماراتية

قبل قرن من الزمن، أصدر الكاتب الأمريكي ول ديورانت، كتابين، الأول حمل عنوان قصة الحضارة، مكون من ثلاثين جزءاً، وخمسة عشر مجلداً، وهو كتاب موسوعي، تناول تاريخ الحضارة، منذ بدأ الاجتماع الإنساني. وقد كان لحضارة وادي النيل، ومابين النهرين، وبلاد الشام، حصة كبيرة من هذا الكتاب. أما كتابه الآخر، فتناول قصة الفلسفة، والموضوع الأخير، هو محور اهتمامنا في هذا الحديث.

في كتابه قصة الفلسفة، تناول ديورانت تاريخها بشكل مقتضب، لم يتسق مع أسلوبه، في موسوعته قصة الحضارة، وانتهى متشائماً حول مستقبلها. فقد أشار إلى النتائج السلبية، التي أحدثها التطور العلمي تجاه الفلسفة، وأنه لم يعد بمقدورها، أداء دورها التاريخي الذي تكفلت به، منذ عصر الإغريق، بفعل التطورات العلمية الهائلة، وسرعتها، بحيث لم يعد بإمكان الفيلسوف متابعتها، واستنباط مناهج نظرية تتيح تفسيرها. فالمعرفة البشرية للعلوم، أمست جداً عظيمة وحثيثة لا يمكن للذهن البشري للفيلسوف اللحاق بها.، وتقديم مصنفات نظرية لتفسيرها.

صدر هذا الكتاب أول مرة، عام 1924، ومنذ ذلك التاريخ شهد العالم تحولات هائلة، في كل المجالات. تحققت ثورات علمية هائلة، في القرن الماضي، بلغت مستوى غير مسبوق في التاريخ الإنساني، مما دفع المفكر الفرنسي روجيه غارودي للقول في كتابه البديل، إلى أن الإنجاز العلمي للبشرية، يفوق ما أنجز منذ بداية التاريخ.

والواقع أنه رغم أهمية ما أنجز في النصف الأول من القرن العشرين، فإن الفرق شاسع وكبير، بين ما أنجز، وما تحقق في النصف الثاني منه. وذلك شيء طبيعي إذا سلمنا بقانون التراكم. وخلال هذا القرن، تواصل التطور العلمي، في جميع المجالات، بشكل يفوق كل تصور.

لقد فتحت الثورة العلمية آفاقاً معرفية لا نهائية لفهم أدق تفاصيل الكون والحياة والمادة، وفهم مكوناتها وتفاصيلها الدقيقة، بما في ذلك نشأة الكون وبروز الحياة على الكرة الأرضية.

والأهم، هو ما نتج عن تلك التطورات، من تغيرات في البيئة الاجتماعية، وتأثير على الهويات والثقافات والمواريث. وأيضاً، في البنى الثقافية والسلوك اليومي.

فعلى صعيد تأثير تلك التطورات، على الهوية، فإنها لم تتشكل نتيجة الرغبة، في العيش والبناء المشترك، ولكن نتيجة للعيش في ظل وضع أنشأه التاريخ، ولوجود عوامل موضوعية عديدة، سابقة فرضت نفسها على الرغبة في العيش المشترك، وشكلت خصوصية اجتماعية لمجموعة من البشر، كونت وطورت ثقافات وتقاليد وعادات، وأنشأت لغة خاصة بها، لتفصل بشكل حاسم بينها وبين الأمم والشعوب الأخرى.

ولذلك، لا يمكن مقاربة حركتها وانبنائها من خلال مقاربة ساكنة، تلغي جملة التناقضات التي تفتعل داخل المجتمع. والتسليم بهذه البديهية، يتطلب إعادة القراءة والتحليل والتأويل، لأن كل ما هو اجتماعي قابل للسجال والجدل. والفاعل الاجتماعي، في سعيه لوعي الذات، تواجهه بالضرورة، مسألة «الغيرية»، في صراعه مع متطلبات عملية تشكل الهوية.

لقد كان من أهم النتائج التي أحدثها التطور العلمي، التحالف بين التقانة والثقافة. لقد أدت هذه التطورات إلى اختراق الحدود الثقافية. ولأن الغرب مثل المركز للثورات العلمية، في القرون الثلاثة المنصرمة، باتت هناك مركزية أوروبية، وبات التلاقح الإنساني الثقافي غير متوازن، ولصالح المركز. فكانت النتيجة رواج ثقافة المركز، وتراجع إمكانية التثاقف بين مختلف الثقافات المعاصرة.

بمعنى آخر، ألغت المركزية الثقافية الأوروبية، التفاعل الثقافي الإنساني، وفرضت ثقافة متحيزة. ومن خلال هذا التحيز جرى تذويب العناصر التي تصنع الثقافات المحلية، بالمجتمعات الإنسانية. وفي هذا السياق، من غير الممكن، فصل مشاريع العولمة، عن محاولة تذويب الهويات الوطنية لصالح المركزية الغربية.

في كتابه المنهج والأفكار، مقامها حياتها عاداتها وتنظيمها، يشير الفيلسوف الفرنسي ادجار ميلان، إلى ضرورة التمييز بين عالم الثقافة الإنسانية، وبين عالم الثقافة العلمية. ويتحدث عن حالة انفصام، بين الأمرين.

إن هذا الانفصام، مؤداه أن المنظومات الفكرية، مغلقة ومفتوحة، في آن معاً. مغلقة بمعنى أنها تحمي نفسها، ومفتوحة، بمعنى أنها تغذي التأكيدات لصالحها. وهي على نوعين، منظومات يتصدر فيها الانفتاح قبل الانغلاق، وتنطبق على النظريات، وآخر، يتصدر فيه الانغلاق، وتغلب عليه الأيديولوجيات. ويكون الانفصام أعتى، بالمجتمعات التي لم تدخل بقوة في الثورات العلمية، والمستهلكة لها. إن القوي علمياً، يسهم بفاعلية، في تذويب العناصر التي تصنع الثقافات المحلية، بالمجتمعات الإنسانية، بما يحقق غلبة المركز على الأطراف.

وليس من شك أن وسائل الإعلام، قادرة بما تملكه من نفوذ وإمكانات تمكنها من تقديم مادتها، في قالب مشوق، عبر تكنولوجيا الإثارة والتشويق، على تحقيق اختراقات بثقافات شعوب العالم الثالث. ومع تغوّل أدوارها، تراجعت أدوار مراكز البحوث والجامعات، ودور النشر والصحف، ومختلف أشكال الأنشطة الثقافية.

في هذا الاتجاه، توضح سوزان غرنيفيد في كتابها «تغير العقل»: إن العالم الجديد ثنائي الأبعاد، مؤلف من البصر والصوت، يقدم معلومات فورية، وهوية متصلة، إن من شأن هذه الثنائية، التحريض على النزعة الاستهلاكية، وتعزيز النزعات الفردية، دون إشباع حقيقي. إنه نقيض نظيره الثلاثي الأبعاد، الذي يغذي حواس الرائحة، والمذاق، واللمس. إن العالم الثنائي الأبعاد، يجعل الفرد مفعماً بالقلق المزعج أو الابتهاج المظفر خلال الاندفاع في دوامة شبكات التواصل الاجتماعي، كما هو بالنسبة للوعي.