نزهة الصمت
الصمتُ لغة الهدوء، لغة اللاحروف، باعِثُهُ الأدب والحكمة وليس الخوفُ والهلع، فيه الرزانةُ والهيبة، هو مانعٌ كبير وسور عالٍ يحمي من الوقوع في الخطأ في معظم الأحيان، يُكسبُ صاحبه التبجيلَ والاحترام، مَنْ يتعلمه ويتقنه ينال العزة والفخر والتقدير وحب الناس.
إن ممارسةَ الصمت مع الآخرين في اللقاءاتِ والاجتماعات والمحافل وغيرها يعطينا الفرصةَ كاملةً كي نتنزه في عقولهم؛ لنكتشف ما فيها من علم وفكر وثقافة ودراية، فننتخب منها ونختار ما ينمي عقولنا ويطور أفهامنا، وتكون خير معينٍ لنا حينما نقرر التوقف عن تلك النزهة ونمنح الدور للحديث بدلاً عن سلوك الصمت؛ حتى لا نُتّهم بالسلبية والجمود، ونتعرض للقدح والذم لشخصياتنا من قِبَلِ الذين لا يميزون بين المعاني والمصطلحات، ويربطون بين الصمت وضعف الشخصية بحبل مهترئ تذروه رياحٌ خفيفة من القراءةِ الدقيقة والوعي السليم.
إنّ الربطَ بين الصمتِ وضعف الشخصية هو رابطٌ غير منطقي ولا يستقيم في إطلاقه وتعميمه، بمعنى أنّ مَنْ يتكلم يصبح لمفردةِ «الإمكان» دورٌ في أن نحكمَ عليه بصورةٍ مبدئية لا نهائية ولا حاسمة، ونحدد شخصيته من حيث قوتها أو ضعفها، أما الذي لم يتكلم وبقي صامتًا فَأَنّى لنا أن نحكم على شخصيته ونقيّمها؟! إنه يا سادة حكم ينقصه الدليل القاطع والبرهان الواضح، فليست الثرثرةُ الفارغة علامةً على القوة، ولا الصمت المدروس الفعّال علامة على الضعف، إنّ ذلك الحكم ما هو إلا مخاتلة يمارسها البعض من كثيري الثرثرة؛ كي يغطوا على ضعفهم، مع كامل استفادتهم من توجيه بوصلة الحُكْم وتجييره لمصلحتهم.
لا بد لنا إذا أردنا وصفَ أحدٍ من الناس بأنّ شخصيته قوية أنَ نعرفَ ونفهمَ وندركَ العلامات التي تبين هذا الحُكْم وتؤكده، وهي كثيرة، ومنها: حسن الإصغاء، والتحدث عند الحاجة، وهاتان العلامتان تحديدًا تأتيان طواعية حينما نقوم بنزهة الصمت الفعالة مع الآخرين، وليس بكثرة العبارات والجمل الجوفاء التي لا تحوي سوى السطحية والرنين المزعج.
عندما نمارس الصمت الإيجابي الفعال حيث يجب أن يكون في مواقعه ومواقفه، يليه التحدث الإيجابي في محله ومكانه، نكون قد جمعنا بين السلوكين ووفقنا بينهما، ونسجنا خيوط المعادلة السليمة فيهما، وحققنا التوازن في حصة كل منهما؛ فنكون بذلك أقرب لأن يتقبل الآخرون آراءنا وأفكارنا وأحكامنا.
قال الكاتب الروسي أندري تاركوفسكي:
”إذا كنت فنانًا في صمتك؛ أصبحت مبدعًا في كلامك“.