منصة تكريم
ترى أي جوائز تلك التي يستلمها الصائمون في يوم عيد الفطر السعيد بخلاف ما قد تناولوه واكتسبوه في الشهر الفضيل، فيعتلون منصة التكريم وينادى عليهم وهم في حالة سرور وغبطة؟!
الصيام الذي صاحبه حالة الغفلة والاسترسال في تناول الشهوات وعدم تهذيب النفس بلا شك ليس هو المترجى منه اعتلاء منصة التكريم، فمجرد الإمساك عن المفطرات بالمعنى الفقهي الضيق لا يحقق الغاية الكبرى من الصيام، وهي ملكة التقوى والورع عن محارم الله تعالى وصناعة درع الضمير الحي تجاه الإغراءات والتزيين الشيطاني، فهذا الصوم وإن أسقط التكليف الشرعي ولكن الغايات والأهداف التربوية والأخلاقية المرجوة من الانخراط في مضماره بعيدة - كل البعد - عن التحقق، وبالتالي فإن الحسابات لهذه الخطوة العبادية تجعله في عداد الخاسرين والمحرومين من تلك النفخات والجوائز المعدة لمن أحسن الصوم وسلمه من التجريح والتمزيق، وباء بخسران عظيم بعد أن كان هذا العلاج الروحي معدا لمشافاته من إدمان ارتكاب المعاصي وضعف الإرادة أمام الموبقات، ولكنه لم يفلح معه لا لأنه غير ناجع ولا مفيد بل لإصراره على حالة الغفلة.
يوم عيد الفطر السعيد الفرحة الحقيقية فيه حينما يعتلي الإنسان منصة التكريم بعد أن بذل جهدا كبيرا في الطاعات المخلصة، وتخلص فكره من أغلال الشهوات المتفلتة وأضحى صاحب فكر نير يركز في حساباته وفق معيار التكامل في الدنيا والتنزه عن كل الأفعال والمواقف المسقطة لشأنه، ونظره يترقب بشكل مستمر الوقوف بين يدي الله سبحانه في يوم القيامة ليجازى على ما قدم من عمل، فالدورة التدريبية من خلال الصوم تمرن فيها بشكل عملي على مراقبة جوارحه والتوقف عن تناول المفطرات؛ لينطلق بعدها في مضمار الحياة متسلحا باليقظة والصبر وقوة الإرادة لمواجهة الصعاب والتحديات، حينئذ تعلوه الفرحة لما أنجزه من عمل في الشهر الفضيل واستعد للأيام القادمة لمواصلة طريقه الإيماني والأخلاقي.
والبرنامج العبادي الشامل في يوم عيد الفطر السعيد لا يخلو من الإشارة إلى البصمة التألقية التي اكتسبها الفرد في الشهر الفضيل، فينطلق مجددا في قطار العمل المثابر الصانع لشخصيته في الجانب الروحي والأخلاقي والاجتماعي والوجداني، فالغسل المستحب في هذا اليوم لا يخلو من الإشارة إلى مضمون مهم ألا وهو مسح الملوثات من نفسه تماما كما يصنع مع بدنه بإجراء الماء عليه، فالتوبة والاستغفار تنزه نفسه من درن الذنوب والخطايا وتعيد له نظافته الروحية، وكذلك صلاة العيد تأكيد على الحضور في محراب العبادة والطاعة والذي لا ينتهي بمرحلة من عمره بل له امتداد في كل أوقاته، وتأكيد على مسار الأنس بذكر الله تعالى واستمداد الطاقة الإيمانية، فالأجواء الروحانية تسعف النفوس المرهقة والتي يستنزف طاقتها العمل المثابر وضغوط الحياة ومشاغلها ليجد مرسى الهدوء النفسي عندما يناجي ربه، كما أن صفاء العلاقات الأسرية والاجتماعية مما يعكرها من كراهيات ومشاحنات قد وجد في مدرسة الصيام ما يجنبه ذلك، فهو يحافظ على مشاعره من الاستفزاز والانفعال المؤدي إلى احتكاكات ومشاعر سلبية تجاه الآخرين، وتأتي محطة عيد الفطر السعيد لتؤكد على الألق الاجتماعي والدعوة إلى التهنئة الحقيقية الخالية من أي مشاعر مستفزة، ولتكون فرصة ثمينة لترطيب الأجواء وإعادة العلاقات المتوترة إلى التصاقي والإخاء والمودة، فالتدين الحقيقي نور يشع على جوارح الصائم فينبلج منه ضياء الاحترام والتقدير للآخرين والتسامح، فالاجتماع في صلاة العيد فرصة لصفاء القلوب واستشعار الوجود الاجتماعي الفاعل والمشاركة في التخفيف عن المحتاجين من خلال زكاة الفطرة.
الفرحة في يوم عيد الفطر السعيد تكون لمن انطلق بعد الشهر الكريم محافظا على إرادته القوية في مواجهة الصعاب والمغريات لارتكاب الخطايا أو السقوط في وحل الرذائل الأخلاقية كالتكبر والأنانية، فالبناء الروحي والأخلاقي والاجتماعي الذي أجهد نفسه على العمل لتشييده لن يتراجع خطوة إلى الوراء في لحظات الغفلة والضعف، فالصفحة البيضاء بعد يوم العيد يمسك نفسه عن تشويهها بسواد الذنوب والتصرفات الطائشة والأخلاق الشرسة.
ورد عن الإمام الصادق : إِذَا كَانَ صَبِيحَةُ الفِطْرِ نَادى مُنَادٍ: اغْدُوا إِلى جوائزكم» «الكافي ج 4 ص 168».