حقيقة الخلاف الأمريكي الإسرائيلي
في الآونة الأخيرة انتشر الحديث عن خلافات حادة بين إدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن، والحكومة الإسرائيلية ممثلة في شخص رئيسها بنيامين نتنياهو. انقسم المحللون السياسيون العرب بين من قال باستحالة وجود هذا الخلاف، بسبب العلاقة الاستراتيجية بين أمريكا وإسرائيل، التي استمرت من دون انقطاع منذ تأسيس الدولة اليهودية عام 1948، ومن قال بغير ذلك.
الذين اعتبروا استحالة وجود الخلاف بين أمريكا وإسرائيل، استشهدوا بدور الرئيس الأمريكي، هاري ترومان، وممارسة إدارته مختلف أشكال الضغط، بما في ذلك التهديد، من أجل التصويت على قرار الأمم المتحدة رقم 181، الصادر في 17 نوفمبر/ تشرين الثاني 1947. وقد قضى القرار بتقسيم فلسطين مناصفة بين العرب واليهود، ووضع مدينة القدس تحت إشراف دولي. وكان صدوره قد تم بناء على طلب السلطة البريطانية، التي أعلنت أن انتدابها لفلسطين سينتهي مع حلول عام 1948.
وفي حينه، لم يقبل الشعب الفلسطيني، ولا القادة العرب، بذلك القرار، لأنه لم يأخذ بعين الاعتبار الحقائق التاريخية، لوجود شعب فلسطين على أرضه. كما أن القرار تناسى أن معظم اليهود في فلسطين لم يمثلوا سوى سبعة في المئة من السكان، معظمهم هاجروا حديثاً إليها، بعد نهاية الحرب العالمية الأولى، تنفيذاً لوعد بلفور عام 1917.
وحين نشبت الحرب العربية الإسرائيلية الأولى، قدم الرئيس هاري ترومان كل الوسائل التي تجعل النصر سهلاً للإسرائيليين، وسهّل لهم إمكانية قضم الجزء الأكبر من الأراضي الفلسطينية، خلافاً لنص قرار التقسيم الذي أشرنا له. وكانت نتيجة تلك الحرب هزيمة محققة للجيوش العربية، التي قاتلت بقيادة المستشار البريطاني، غلوب باشا، وحلول النكبة الفلسطينية.
الذين يؤيدون القول بوجود خلافات حقيقية بين إدارة بايدن وحكومة نتنياهو، يستدلون بحوادث خلافية سابقة، على رأسها موقف الرئيس الأمريكي دوايت أيزنهاور من العدوان الثلاثي على مصر، عام 1956. وقد حدث ذلك دون شك، ولكن العامل الحاسم في فشل العدوان كان الإنذار السوفييتي الذي هدد بقصف لندن وباريس بالقنابل النووية، وشكك في إمكانية استمرار وجود إسرائيل، بعد انتهاء فترة الإنذار. وحين لجأ رئيس الوزراء البريطاني، انتوني إيدن، منتدباً عن زميليه الفرنسي والإسرائيلي، طلباً للدعم السياسي الأمريكي، رفض أيزنهاور تقديم أي دعم، بذريعة أن العملية العسكرية ضد مصر تمت دون استشارته، وطلب إليه الاستجابة للإنذار والانسحاب الفوري من سيناء. وقد استجاب المعتدون للإنذار وتم الانسحاب من الأراضي المصرية.
الواقع أن من الصعب على القراءة الدقيقة لحقبة الخمسينات من القرن الماضي تناسي استراتيجية الباب المفتوح التي تبناها أيزنهاور، والتي هدف من خلالها إلى إزاحة الاستعمار التقليدي عن المنطقة والحلول محله. لقد وجد أيزنهاور في الإنذار السوفييتي فرصة سانحة لطرد هذا الاستعمار من المنطقة، وتحقيق استراتيجية الإزاحة.
وبالعودة إلى العنوان الذي تصدر هذا الحديث، فإن إدارة الرئيس بايدن وقفت بقضها وقضيضها مع إسرائيل في أحداث السابع من اكتوبر/ تشرين الأول الماضي، وجاء الرئيس بنفسه إلى تل أبيب ليقدم الدعم والتأييد لحكومة نتنياهو. وقدمت إدارته مختلف أشكال الدعم العسكري والسياسي والاقتصادي له، واستخدمت سيف «الفيتو» عدة مرات للحيلولة دون صدور قرار من مجلس الأمن الدولي يطالب بالوقف الفوري لحرب الإبادة على قطاع غزة. وحتى حين أمتنعت أمريكا عن التصويت على قرار صدر مؤخراً عن مجلس الأمن الدولي، يطالب بوقف إطلاق النار، التفت أمريكا على القرار، واعتبرته غير ملزم، وذلك ما يتناقض تماماً مع ما هو مألوف عن القرارات التي تصدر عن المجلس.
لقد مرت ستة أشهر بالتمام على حرب الإبادة التي تشنها إسرائيل بحق الفلسطينيين في قطاع غزة، دون أن تحقق هدفها الرئيسي في القضاء على حركة حماس.
وبالنسبة لإدارة بايدن، فإن رئيس الحكومة الإسرائيلية نتنياهو منح ما هو أكثر من الوقت الكافي لإنجاز تلك المهمة، ومع ذلك أنتهت جميع محاولاته بالخيبات، وبات التفرد الأمريكي في تأييد سياسات إسرائيل يشكل عبئاً على حكومة بايدن، على الصعيد المحلي والعالمي، خاصة بعد قرارات محكمة العدل الدولية، التي دانت بوضوح العدوان الإسرائيلي، ووصفته بحرب الإبادة، والتي بلغت حد اتهام إسرائيل بارتكاب جرائم ضد الإنسانية.
لقد أدرك بايدن أخيراً مخاطر سياساته اللاعقلانية تجاه حكومة نتنياهو، على مستقبله السياسي. ففي لقائه على مائدة الإفطار الرمضاني الذي اعتادت الإدارة الأمريكية إقامته كل عام لقيادات الجالية الإسلامية، أدرك أن وضعه في الانتخابات الرئاسية المقبلة سيكون صعباً إذا واصل تأييده غير المشروط لإسرائيل، خاصة بعد أن انسحب عدد من الأطباء وأعضاء الجالية من دعوة وجبة الإفطار الرئاسية، احتجاجاً على دعم حكومة بايدن للإرهاب الإسرائيلي.
يضاف إلى ذلك أن عدداً من مستشاري الرئيس بايدن قد أبلغوه بصعوبة فوزه في الانتخابات الرئاسية المقبلة، إذا ما واصل دعمه غير المشروط لحكومة نتنياهو، وأن عليه من أجل تجاوز هذا الواقع أن يغير سياساته المؤيدة من غير حدود لإسرائيل، بما في ذلك الدعم العسكري للمجازر التي ترتكب يومياً في قطاع غزة.
إذاً، فالتغيير في السياسة الأمريكية إن حدث، فهو تكتيكي وليس استراتيجياً، وهو محكوم بدوافع انتخابية أكثر مما هو مبدئي وأخلاقي.