المرأة في فكر الشيخ حسن الصفّار
شغلت قضايا المرأة حيّزًا كبيرًا من هموم المجتمعات المحافظة لأسبابٍ قد تكون عُرفيّة أكثر من كونها دينيّة وإن اصطبغت بصبغة دينيّة، وإنّ الواقع الذي نعيشه اليوم ونعدّه أمرًا طبيعيًّا فيما يتعلّق بالمرأة في مجتمعاتنا من إعطائها حقوق التعليم والعمل والمشاركة في نهضة مجتمعها في كافّة المجالات لم يكن في السّابق أمرًا طبيعيًّا أو مقبولًا في أكثر المجتمعات تحفّظًا في المملكة العربية السّعودية. صحيحٌ أنّ القرارات الرّسمية من أجهزة الدّولة هي الفيصل في مثل هذه الأمور، ولكن لم تكن لتأتيَ هذه القرارات أٌكلَها لو لم يكن هذا المجتمع مستعدًّا لقبولها، وكانت المرأة فيه على قدرٍ من العلم والثّقافة تمكّناها من أخذ مكانها المناسب في عمليّة التغيير هذه.
إنّ الكثير من مسلّمات هذا العصر كانت محلّ جدل ونزاعٍ بين التيّارات المختلفة التي تباينت في نظرتها للمرأة، تلك النّزاعات التي حكتها وسائل الإعلام مثل حلقة ”سور الحريم“ في مسلسل ”طاش ما طاش“ والتي بُثّت عام 2006 م راويةً قصّة أعلى درجات التطرّف تجاه المرأة في جوٍّ كان الخطاب فيه يترحّم على زمانٍ كانت المرأة لا تخرج فيه إلَّا ثلاث مرّات، الأُولى من رحم أُمّها، والثانية إلى بيت زوجها، والثالثة محمولة إلى قبرها!
عاصر الشيخ الصفّار في طفولته افتتاح أولى مدارس البنات في محافظة القطيف في بداية الستّينات الميلاديّة، في ذلك الوقت الذي كانت فيه بعض الآراء الدينيّة ترى كراهة تعليم المرأة، وكان الجوّ العام يؤسّس لنظرة دونيّة للمرأة، ولكنّ الجهود المحليّة أثمرت في فرض هذا الواقع الجديد متحدّيةً تيّارًا لم يكن ليُستهان بقوّته وحضوره. حمل الشيخ على عاتقه فيما حمل مواصلة المسيرة التنويرية والتجديد في الفكر الدّيني، منطلقًا من منظور إيماني أساسه أنّ للنّساء نصيبًا ممّا اكتسبن كما للرجال نصيبٌ ممّا اكتسبوا، وقد اتّسمت معالجته لقضايا المرأة بشجاعة الطّرح وعمقٍ في الثّقافة والاطّلاع مكّنت خطابه في أن يحظى بقبولٍ واسع.
نتذكّر أنّه بعد عودة الشّيخ إلى المملكة في منتصف التسعينات الميلاديّة كانت آفاق عمل المرأة هنا محصورةً في غالبها بين قطاعي الصحّة والتعليم، فكانت طموحات فتياتِ ذلك الجيل محصورة في إطار هذه الحالة. عند الحديث عن المجتمع النّسائي عندنا بشكلٍ عام نستطيع القول: إنه لم يكن لنسائنا في ذلك الوقت الوعي الكافي بحقوقهنّ أو الإيمان بقدراتهنّ العقليّة أو البدنيّة، وقد وقعت الكثير من النّساء ضحايا للعنف أو التنمّر والظّلم وكأنّها خُلقت لتواجه هذا القدر المحتوم.
تمكّن الشيخ في تلك الفترة أن يستقطب - ببلاغة خطابه وعمق طرحه - شرائح واسعة من المجتمع. حيث كان الشيخ ظاهرة فريدة في تاريخ الخطاب الحسيني في القطيف، فقد خرج عن الإطار التقليدي الذي تشغل فيه القضايا العاطفيَّة والأحاديث التاريخيّة والسّجالات المذهبيَّة أغلب حيّزها إلى خطابٍ فكري واعٍ يمسّ القضايا الثّقافية والاجتماعية المعاصرة بشكل جادٍّ وأسلوب شائق، وأرسى فيها مفاهيم لم تكن معروفةً ولا مألوفة في الخطاب الدّيني السّائد، كالتنوّع والتعايش، والسّلم الاجتماعي، والتطلّع للوحدة، والإصلاح الدّيني، وكان للمرأة نصيب وافر من محاضرات الشّيخ وكتاباته وحركته الاجتماعيّة، التي حرص من خلالها أن تُعطى للمرأة كافّة حقوقها وفرصها في تحقيق ذاتها والرّقي بها، في إطار قراءة شرعيّة منفتحة تنظر للمرأة بإنسانيّتها، بلحاظ أنّ النّساء شقائق الرّجال كما ورد في الأثر الذي يردّده في خطاباته. وفيما يلي سنستعرض بعض المواقف عند قراءتنا لسيرة الشّيخ حسن الصفّار في هذا الجانب.
كانت أولى محاضراته بعد عودته إلى المملكة في حسينيّة العوّامي، وقد امتدّت لعدة مواسم، شهدت خلالها إقبالًا نسائيًّا كبيرًا، ولا سيّما من الفئات الشابّة المتعطّشة لخطابٍ ديني عقلاني بعيدٍ عمّا يُقال ويُفعل في مجالس النّساء من أحاديثَ وطقوسٍ تخالف العقل وتفتقر للدّليل. كانت من عادة الشّيخ أن يُخصّص محاضرةً كاملةً على الأقل في موسم المحرّم تُعنى بالشّؤون والتحديّات المعاصرة للمرأة. وقد امتاز الشّيخ عن غيره من الخطباء في تناوله قضايا المرأة بعدّة أمور، أهمّها - في نظري - إلمامه بهموم وتطلّعات المرأة في الزّمان والمكان الذي يعيش فيه، والذي كان نتيجة طبيعيّة لدوره الاجتماعي الرّائد، وتواصله مع كافّة أطراف المجتمع مهما كلّفه ذلك من وقتٍ أو جهد.
إنّ القارئ لخطاب الشيخ الصفّار وتناوله لقضايا المرأة يجد فيه الكثير من الصّراحة والإنصاف والشّجاعة في الطّرح، دون أن يجد حرجًا في أن ينتصر للمرأة على حساب أبناء جنسه إن اقتضى الأمر قول الحق، وقد يؤدّي ذلك أحيانًا إلى غضب المتعصّبين من الرّجال الذين عاتبوا الشّيخ غير مرّة. نذكر مرّة فصّل الشيخ في محاضرة له ما للمرأة من حقوق في فرض شروطٍ معيّنة في عقد الزواج، ممّا أدَّى إلى موجة غضب، باعتبار أنّ الشيخ يؤلّب النّساء على أزواجهنّ، ويرشدهنّ إلى ما لا يجب عليهنّ معرفته!
كان مساء يوم الأربعاء حافلًا بالبرامج والمحاضرات التوعوية في مجلس الشّيخ، وقد أخذت سلسلة فقه الأسرة حيّزًا كبيرًا من تلك المجالس، والتي امتدّت حلقاتها لخمسين حلقة، تناول من خلالها مختلف قضايا الأُسرة بمنهجيّة علميّة وهدوء في الطّرح، مكرّسًا منهجه المعتدل المنصف لحقوق المرأة. ولم تكن رؤاه عن المرأة مجرّد تنظيرٍ لواقعٍ مثالي، بل يُتبعها بواقعٍ عملي، فقد خصّص مكانًا للنّساء في مجلسه، ورحّب بمشاركاتهنّ وإسهاماتهنّ عبر السّمّاعات الصوتيّة في وقتٍ كانت فيه حسّاسيّة المجتمع شديدة تجاه أيّ تقاطعٍ بين شؤون الجنسين، وكأنّ الشّيخ يريد إيصال عدّة رسائل مفادها أنّ للنّصف الآخر من المجتمع الحقَّ في التعبير عن ذاته والمشاركة في بناء مجتمعه، وأنّ رجال الدّين هم أولى من غيرهم في كسر تلك القيود التي طالما أُلصقت بالدّين.
كان ذلك في شهر رمضان قبل عشرين عامًا مع بداية الألفية الجديدة، حين لبّى الشّيخ دعوةً لإلقاء مجموعة من المحاضرات في ليالي الشهر الكريم مخصّصة للنّساء، أُعدّت غرفة للشّيخ، وكانت محاضراته تُبثّ بالصّوت والصورة، وكان يستمع لمداخلات واستفسارات النّساء بكلّ رحابة صدر، واكتظّ المجلس بالنّسوة، وكان حضور الشّابّات لافتًا، وقد تفاعلن كثيرًا مع المحاضرات، حتّى أنّنا نذكر أنّ بعضهنّ كنَّ يدوّنَّ ما يسمعنه في منظرٍ غير مألوفٍ في المجالس النّسائيّة في القطيف. كانت شهادات النّساء بحق الشّيخ - ولا سيّما بعد هذه السّلسلة من المحاضرات - مذهلة، فالبعض عدّه أكبر نصيرٍ لقضايا المرأة من الوسط الدّيني، وأخريات أَثنَيْن على دوره في زرع الثّقة والطّموح عند المرأة، وأخريات وجدن فيه معلّمًا تنويريًّا وأستاذًا لجيل جديدٍ يبشّر بقيمٍ كالاعتدال والتعقّل.
نالت المرأة نصيبًا كبيرًا من مؤلّفات الشّيخ الصفّار، نذكر منها عدّة عناوين مثل: ”شخصيّة المرأة بين رؤية الإسلام وواقع المسلمين“، و”المرأة.. مسؤوليّة وموقف“، و”المرأة العظيمة“ وغيرها من المؤلّفات. استعرض الشّيخ فيها أمثلة مشرقة عبر تاريخ البشريّة مرورًا بتاريخنا الإسلامي ودور المرأة فيه، مؤكّدًا على شراكتها للرّجل في الإنسانيّة، ومعزّزًا لواقعٍ تكون فيه المرأة ناهضةً وفاعلة دونما ابتذالٍ على ضوء قراءة دينيّة واعية، وناقدًا لحالة التخلّف والجمود التي تحرم المرأة من حقوقها بحججٍ دينيّة لا أساس لها. إنّ من اللّافت من عبارات الشيخ في بعض هذه الكتب المذكورة وفي محاضراته - أيضًا - عنوان: ”المرأة حين تفوق الرّجال“، مستشهدًا بعيّناتٍ نسائية تفوَّقن في مجالاتٍ عدّة، كي يشجّع بنات الجيل الجديد على أَلَّا يرضين بالأقلّ من الأمور؛ إذ إنّ الأنوثة أو الرّجولة لا تُعطي لأيّ طرف أفضليّة على الآخر.
إنّ من يكون شاهدًا على حياة الشّيخ الاجتماعية لا يستطيع أن يُقرّظ فكره دون المرور على أثر هذا الفكر في سيرته، هناك من يُحسن التنظير في قضايا المجتمع ولكن تراه في برجه العاجيّ لا يعيش همومه ومشاكله، ونحن لا نرى أن من الضّرورة التّلازم بينهما، ولكن أن ترى مسيرتين متوازيتين لنتاجٍ فكريٍّ من جهة وعملٍ اجتماعي من جهة أخرى تكون ثانيتها ترجمانًا لأولاها لهي سيرة تستحقُّ التأمّل والتدريس. لعلّ الكثير يعجب كيف لهذا الإنسان - مع كلّ ما يشغله - أن يجد من الوقت ما يمكّنه من معايشة الكثير من الأحداث والمناسبات في المجتمع، وأن يكون عضوًا فاعلًا فيها، وكأنّه قد أعُطي حصّة من الوقت في اليوم أكثر من غيره!
في حين قد وقع بعض الخطباء في منطقتنا في مواقف محرجة عندما خالف وعظهم على المنبر ما يقولونه في مجالسَ خاصّة، ولا سيّما عندما يتعلّق الأمر بما له حسّاسيّة في المجتمع المحافظ، ولكنّ الشّيخ الصّفّار ابتعد عن تلك التناقضات، فهو طالما نصح غيره من الخطباء أن يوحّدوا خطاباتهم وأن يقولوا ما يؤمنون به بكلّ شجاعة، وقد شهدنا أنّه يفعل ذلك مهما كلّفه من نتائج على المستوى الشّخصي، ولم ينصح بشيءٍ إلَّا بدأ بنفسه وأهله فكان مصداق قول الشّاعر: ”ابدأ بنفسك فانهها عن غيّها“.
علاوة على ما ذُكر في سياق دعم الشّيخ لمشاركة المرأة في الشأن الثّقافي والاجتماعي لدينا الكثير من الشّواهد من تاريخ الشّيخ في هذا المجال تحديدًا لا يسعنا المقام في تعدادها، ولكن نشير إلى جملةٍ منها؛ فعندما يردّد في خطاباته أنّ إصلاح ذات البين خيرٌ من عامّة الصّلاة والصّيام، أو أنّ عرش الرحمن يهتز للطّلاق، فذلك يتبعه ساعاتٌ من العمل الدؤوب سعيًا في الإصلاح بين المتخاصمين، خاصّةً عندما يتعلّق الأمر بامرأة مستضعفةٍ. وكم شهدنا على حالاتٍ كان فيها محضر خيرٍ بما له من مكانة اجتماعيّة، وبما عنده من أسلوبٍ راقٍ في حلّ النّزاعات. وعندما يريد أن يقدّم محاضرةً عن قضايا المرأة فلا يفعل ذلك إلَّا بعد بحثٍ واستشاراتٍ لبعض نساء المجتمع، ليكون ملمًّا بهمومهنّ وتطلّعاتهنّ المعاصرة من وجهة نظرهنّ. إنّ كلّ ذلك النّتاج الفكري وما يصاحبه من فعلٍ واحترامٍ لشخص ومكانة المرأة والسّعي في تمكينها من حقوقها لهما وجهان لامعان من عملةٍ ذهبيّة واحدة صاغها الشّيخ الصّفّار بفنٍّ وعناية لتظهر للعالم صورةً مشرقة من حضارتنا.