آخر تحديث: 24 / 11 / 2024م - 6:06 م

الحلقة الخامسة

المرجعيات الدينية المحافظة... تباينُ الأفكار والمواقف!

حسن المصطفى * جريدة النهار العربي

لا يزال يصلني حول المقالات الأربع السابقة التي نشرتها في ”النهار العربي“ حول المرجعية الدينية في الخليج العربي، وحدود أدوارِ الفقيه في ظلِ الدولة الوطنية الحديثة، العديد من وجهات النظر المؤيّدة والمعارضة، وهي آراء تتنوع باختلاف الخلفيات الثقافية لأصحابها، وكلها أفكارٌ محترمة، لأنّ غاية المقالات الدفع نحو نقاشات علنية، حرّة، غير مقيّدة، تتجاوز التقديس والتدنيس، وتقود نحو معالجات علمية شفافة وعملية أيضاً!.

في هذا السياق، وصلني الاستفهام التالي: كيف ستكون علاقة دول الخليج بالمرجعيات الدينية المعتدلة والمحافظة، التي لا تملك مشاريع سياسية؟

هذا السؤال أعتقد أنّه جدير بالبحث، لأنّ هذه ”المرجعيات المحافظة“ تستحوذ على جزء كبير من الأتباع في دول الخليج العربية، كما أنّها واقعٌ لا يمكن تجاهله، ولها تأثيرها، وإن كان بأدوات مختلفة عن تلك التي تستخدمها المرجعيات الحركية - السياسية!.

”المرجعيات المحافظة“ بداية، يجب ألاّ يُنظر إليها ككتلة صماء واحدة، لأنّها حتى وإن كانت بعيدة من الاشتغال في السياسة، إلاّ أنّ منطلقاتها الفكرية والفقهية مختلفة، كما أنّ بعضها له رأي في الموضوع السياسي بشكل عام، ضمن خطوطه الكبرى، من دون الدخول في تفاصيله، بينما مرجعيات أخرى بعيدة من الحديث السياسي العلني تماماً.

أيضاً، هذه المرجعيات المحافظة تتنوع في موقفها من كيان ”الدولة الوطنية“. فبعضها يعتقد بأهمية الحفاظ عليه وصونه واحترام قوانينه، والبعض الآخر يضع بينه وبين ”الدولة الحديثة“ مسافة فاصلة، وكأنّه غير معني بها، إلاّ في حدود ضيّقة جداً تخصّ حياة الناس اليومية.

أمرٌ ثالث، هناك تباين حادٌ في موقف ”المرجعيات المحافظة“ عقائدياً تجاه الآخر المختلف مذهبياً. فبعض هذه المرجعيات يمكن وصفها ب ”المعتدلة“ و”العقلانية“، حيث تقف بحزمٍ ضدّ التكفير والخطابات الطائفية، وتنشطُ في الدعوة إلى التعايش السلمي وصون السلم الأهلي. فيما مرجعيات أخرى تتبنى خطابات انعزالية طائفية ضيّقة، وتنظرُ إلى المختلفِ معها بازدراء!.

أيضاً، على المستوى الفكري والثقافي، هناك مرجعيات دينية محافظة، منفتحة بدرجة معقولة على الأفكار الحديثة، وهي وإن لم تكن مؤمنة بها جميعها أو مؤيّدة لها، إلاّ أنّها لا تحرّض على المثقفين المستقلّين، ولا تتصادم مع الأفكار ذات الطبيعة العلمانية، بل تراها تسعى لبناء جسور التواصل، وتخفيف حدّة الاختلافات، عبر قاعدة احترام التعددية الفكرية والمشترك الإنساني.

في الوقت ذاته، هناك مرجعيات محافظة متشدّدة في أفكارها تجاه المجتمع المدني، وترى فيه خروجاً عن الجادة المستقيمة، وتأمر أتباعها بالوقوف في وجه أفكار الحداثة، وترفض أي قراءة نقدية للخطاب الديني.

كل هذه النقاط، يضافُ إليها ملف في غاية الأهمية: موقف هذه ”المرجعيات المحافظة“ من العنف واستخدام السلاح ضدّ كيان الدولة!

هناك فقهاء محافظون، كانوا صريحين في دعوتهم أتباعهم لاحترام القانون والنظام، وضرورة حفظ الأمن العام في الدول التي ينتمون لها، وأنّ عليهم أن يكونوا ”مواطنين صالحين“ منخرطين في التنمية، وأنّ واجبهم يحتّم عليهم رفض أي مظاهر للعنف أو الإرهاب.

في المقابل، هناك مرجعيات محافظة، ساكتة، أو بعضها ليس لديه مشكلة في مواجهة الحكومات التي يعتبرها خارج دائرته المذهبية الضيّقة، وبالتالي هذه المرجعيات تصمتُ عن العنف أو توفّر له غطاءً بصورة أو أخرى، وإن كان غير علني!.

هذه الفروقات مهمّة للتمييز بين أنواع ”المرجعيات المحافظة“، لأنّ مجرد عدم الانخراط في العمل السياسي أو الحزبي المباشر، لا يعني أنّ هذه ”المرجعية“ يمكن وصفها بالمعتدلة أو العقلانية؛ وإنما الأساس هو مدى وعي الجهاز المرجعي بأهمية احترام كيان الدولة والمواطنة وسيادة القانون وحقوق الإنسان والحرّيات الشخصية والتعددية الثقافية، ومدى فاعليتها في مواجهة الخطابات الطائفية والعنصرية والعنيفة.

بناءً على ما تقدّم، كيف يمكن التعامل مع كل صنفٍ من هذه المرجعيات المحافظة، وما مدى أهمية بناء علاقة معها؟ وهل هذه العلاقة ستصبّ في صالح تعزيز السلم الأهلي، أم أنّها ستمنح المرجعيات أدواراً أكبر؟ اسئلة ستناقشها المقالةُ المقبلة.